حوار مع الأديب الإماراتي إبراهيم مبارك:
الوصول إلى الهدف: أنا كاتب واقعي رغم أنني أستخدم الرمزية في بعض الأحيان، وأحب التشريح الاجتماعي من أجل الوصول إلى الهدف، وعدم التهويش بعيداً عنه، والمباشرة في الفن قاتلة، وليست إبداعاً، ولكن نلجأ إليها مرات معينة حيث نمزج الجانب الفني بالواقعي.

دبي من أحمد خضر: إبراهيم مبارك أديب إماراتي ولد في البحر، ذلك الأزرق الحنون الذي احتضنه وشهد شهقته الأولى، وعلى شاطئه كانت ملاعب صباه وذكرياته الطفولية، لولا انتشار التعليم لكان إبراهيم مبارك صياداً يستخرج الألىء والكنوز والأسماك من الماء، بدلاً من اصطياد كنوز الأدب ومفردات اللغة الجميلة من بواطن الكتب، لقد حررت الثقافة هذا القاص المرموق من قيود الواقع البسيط البائس في قرية أم سقيم وربطته بحياة المدينة العصرية، وقضايا وهموم الأمة التي يسعد لأفراحها، ويئن لجراحها وعذاباتها، إنه أديب جسور يبتعد في كتاباته عن المواضيع الاجتماعية المكررة التي لا تكاد تنتهي، إلى منتوج يواجه من خلاله الحقائق العاصفة، ويستولد المواضيع المبتكرة المثيرة التي تثير الدهشة والانبهار، وفي كل كتاباته يرمي بظلال الوطنية والكرامة ممزوجة برشاقة الإبداع كي يضيء شمعة في انسكاب قطرات الظلام، أو يزرع شجيرة خضراء في مساحة التصحر والجفاف الذي يداهم القلوب، وفي مجموعاته القصصية الأربع (الطحلب) (عصفور الثلج) (الخان) وأخيراً (ضجر طائر الليل) التي صدرت عن اتحاد كتاب الإمارات في معرض الشارقة الدولي للكتاب مؤخراً، وهي مجموعة قصصية تتناول جملة من الموضوعات عن البيئة والحياة الإماراتية قديماً وحديثاً من منظور خاص لأديب يسجل شهادة في هذه الأحداث التاريخية والاجتماعية، ينتمي إبراهيم مبارك إلى عبقرية المكان، ويضيء جوانب خصبة من التحولات التي طرأت على المجتمع الإماراتي، إنه يحقق ذاته من خلال روائعه، وإبداعاته، لا يتزلف أحداً، ورموزه التي يسقطها على شخصياته جريئة واضحة المعالم، وتكاد تمتد من الماء إلى الماء في كل الوطن العربي. المزيد من التفاصيل في الحوار التالي:

* كيف كانت بدايات إبراهيم مبارك القصصية؟
ـ البداية طويلة، تمتد إلى أواسط السبعينات، حيث كان الاهتمام الشخصي بالمطالعة والقراءة والجانب الثقافي، وكانت النوادي في ذاك الزمن حاضنة للثقافة، وهي تهتم بالرياضة والثقافة معاً، والمدينة محدودة الاتجاهات، ونحن كنا مجموعة في نادي النصر بدبي حاولت أن تستفيد من المكتبة الموجودة، وأصدرنا مجلة على الستانسل تركز على الهم الاجتماعي، وقد شدنا الإخوة المدرسون الفلسطينيون والمصريون الذين كانوا شعلة في الوطنية إلى الاتجاه القومي والوطني، كانت البدايات محاولات عشوائية للكتابة، إلى أن تبلورت في جامعة الإمارات مع بداية الثمانينات في جانب القصة، وكان في تلك الفترة محمد المر وعبدالحميد أحمد ومريم جمعة وغيرهم وكان خالد بدر وأحمد راشد في الشعر.

*ما أول قصة نشرت لك في الصحافة؟
ـ أول قصة كانت في مجلة النصر الثقافية اسمها (ضربات المطارق) وتطور الوضع للنشر في الصحافة، وانتهى إلى إصدار مجموعات هي (الطحلب) عام 1989، (عصفور الثلج) عام 1992، (خان) عام 2000. وأخيراً (ضجر طائر الليل) هذا العام إضافة إلى كتاب (الحركة الكشفية) ثم (قراءة في الأنشطة الثقافية التعليمية) (صدى المسرح) وهو عبارة عن مقالات في المسرح، (سواحل البحر) كتابات عن بيئة البحر.

* يحتل البحر مساحة كبيرة في كتاباتك.. هل هو الانتماء للمكان؟
ـ هذا شيء طبيعي، فنحن من بيئة بحرية، وكلنا أبناء صيادين، ولولا تطور التعليم لتوارثنا مهنة آبائنا وأجدادنا، ثم أنني من مواليد أم سقيم (الجميرا) حالياً فهذه البيئة التي هي الآن أرقى أحياء دبي، كانت بعيدة في السابق عن المدينة، وموقعاً للصيادين، فيها حياتهم، معيشتهم، رزقهم، ليلهم، نهارهم.

* لكن الكتاب والأدباء من جيل السبعينات والثمانينات في الإمارات مؤرقون بالهم الوطني والقومي؟
ـ في تلك الفترة كان الهم القومي هو السائد بفعل الصقل والحراك الاجتماعي القومي لدى مجموعة من الشباب الذين تأثروا بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى، وكان هناك انفتاح على حياة الشعوب الأخرى، وقضية الإنسان والمرأة والقضايا الاجتماعية والوطنية

* متى حدثت الانعطافة التي أثرت على مضمون الكتابات الأدبية والثقافية وهل لعب العامل الاجتماعي في الإمارات دوراً في ذلك؟
ـ بالطبع، صار هناك متغير كبير في منطقة الخليج العربي، وخاصة في الإمارات، والسبب وجود نمو اقتصادي اجتماعي أوجد تشابك اجتماعي، ومشاكل اجتماعية جديدة، وخاصة بسبب وجود العمالة الأسيوية، فأصبح المد الأسيوي ظاهراً للعيان، ويحاول أن يسحبنا، إضافة إلى وجود تخلخل في الاتجاه القومي على المستوى العربي بشكل عام، وصارت الكتابات التي تفرزها البنية السكانية الجديدة تطغى على الكتابات الأخرى، وكأناس مشغولين بالثقافة كان لا بد من أن نتناول المشاكل الاجتماعية التي أفرزتها الطفرة الاقتصادية.

* إلى أي مدى تعتقد بأن المبدع مظلوم في هذا الزمن ويكاد لا يسد رمقه؟
ـ إذا كان الكاتب ينتظر خبزاً جراء كتاباته فهي لا تطعم، إن الكاتب في الواقع لا ينتظر، هو أمين على القضايا الاجتماعية والوطنية والسياسية، والثقافية، والفنية، من أجل إيصالها إلى المسار الصحيح، إذا كان ينتظر شيئاً فليعمل بالتجارة، لكن مع هذا فإن المثقف رغم الهم الكبير الذي يحمله، وتصديه للقضايا الاجتماعية، وكشف العيوب وتنوير الناس، إلا أنه يعاني الظلم عندما ينظر إلى المعادلة، ويقارن نفسه مع شخص أركوز، أو مطرب تافه يصرف عليه المال، أما المثقف فإنه مسكين لا يقدر ولا يكرم، معادلة صعبة جداً، ولكن على الإنسان صاحب القلم أن يؤمن أن هذا هو طريقه، وهذا مساره ومسؤوليته، لا ينتظر أن يغدقوا عليه ويحتضنوه لأنه كاشف الأوراق فيما الآخر يسليهم.

* لماذا يركزإبراهيم مبارك في قصصه بعض الأوقات على الواقعية المباشرة، ألا يتناقض ذلك مع المستوى الإبداعي للكتابة؟
ـ أنا كاتب واقعي رغم أنني أكتب بالرمزية في بعض الأحيان، وأحب التشريح الاجتماعي من أجل الوصول إلى الهدف، وعدم التهويش بعيداً عنه، والمباشرة في الفن قاتلة، وليست إبداعاً، لكن نلجأ إليها مرات معينة حيث نمزج الجانب الفني بالواقعي.

* هناك تداخل في الأزمنة بالنسبة للكتابة، ألا ينسحب ذلك على المنتوج الأدبي الثقافي بالنسبة لك؟
ـ هذا صحيح، فالسردية على سبيل المثال غير مستحبة اليوم، والإغراق في السردية يقتل العمل القصصي، فيما كانت السردية في السابق مهمة لأن الناس تعودوا على الحكايات السردية المباشرة من أمثال ألف ليلة وليلة، أما الآن فصارت مدارس كثيرة، وانا شخصياً أحب الاشتغال بطريقة أمريكا اللاتينية البعيدة عن المباشرة مثل ماركيز، وكونديرا، وغيرهم.

* ما رأيك في المستوى الذي بلغته القصة كفن وافد في العالم العربي والخليج؟
ـ تاريخ القصة في العالم العربي متقدم عن البدايات في الأربعينات والخمسينات، حيث يوجد لها أصداء فنية حلوة في الشام، مصر، المغرب، العراق، وفي الخليج تقدمت أيضاً خلال السنوات الأخيرة، وصار الاشتغال فيها بما هو موجود في الوطن العربي، وإن اختلفت المستويات بين شخص وآخر، والمستقبل يبشر بالخير.

* وتقييمك لتجارب الجيل الجديد من كتاب القصة في منطقة الخليج؟
ـ بعض التجارب جيدة، واستوقفتني على سبيل المثال تجارب قصصية من سلطنة عمان، لكن البعض الآخر ما زال بحاجة إلى عمل أكثر.

* رغم وجود كتاب وأدباء لامعين، لكن ما زال هناك معوقات تحول دون التطور الملموس في ميدان القصة والرواية، ما أهم هذه المعوقات في رأيك؟
ـ الإنسان العربي منغلق بالشعر منذ تاريخ طويل، وعنده إرث كبير في الجانب الشعري على كل الساحة العربية، لكن في الجانب القصصي والروائي فإن التجارب جديدة وأقل من الشعر، لذلك لا تنزعج إذا كانت الإصدارات الجيدة قليلة لأنها تحتاج إلى تراكم كبير حتى تفرز كتاباً مبدعين.

* النقد يثري الحركة الأدبية ويدفعها إلى الأمام، خاصة إذا وجدت الأقلام النقدية القادرة على التعامل مع المنتوج الأدبي بصورة حرفية، هل وصل النقد في الإمارات إلى هذه الدرجة؟
ـ لا توجد مدارس نقدية في الإمارات، الذين كتبوا حاولوا أن ينصفوا الأعمال الأدبية من شعر ونثر، وقدموا وجهات نظرهم في الإيجابي والسلبي، ونحن قبلناها كما هي، لأننا لا ندعي أننا نفهم في النقد، ولا يوجد في الإمارات من يشتغل على النقد بشكل جيد، لكن لو تفرغوا للنقد فقط، واشتغلوا بشكل أكاديمي ومستمر، فسوف يفرز عندنا نقاداً جيدين، لكن الموجود ما زال عبارة عن محاولات.

* ما رأيك في نادي القصة الذي يلتئم في اتحاد الكتاب؟
ـ فكرة حلوة خاصة بالنسبة للشباب، وهذه العملية مهمة جداً لأنها تزيد المعرفة والإدراك، لكن المشكلة أن الاتصال صعب، الموجودون في الشارقة أكثر من يستفيد من هذه القضية لوجودهم في نفس المكان.

* هل كتبت للطفل؟
ـ لم أكتب للطفل، لكن حظي أنني كتبت بعض القصص التي تم اختيارها في المنهاج والتي لم أتوقع اختيارها على الإطلاق.

* لماذا لم تكتب للطفل؟
ـ الاشتغال للطفل يحتاج إلى أناس متخصصين في هذا المجال، من أجل مخاطبة عقلية هذا الطفل والوصول إليه بصورة إبداعية تخاطب عمره الزمني، ولو أن الأطفال المعاصرين هم على مستوى من الذكاء ما يؤهلهم لاستيعاب الكثير من مفردات الحياة العصرية التي ينبغي على الكاتب في حالة كهذه مخاطبتهم بصورة حاذقة، ربما في المستقبل يكون لي فرصة في الكتابة للطفل.

* وبخصوص الشعر، البعض يرى أن السردية في القصة ربما تتحول إلى ما يشبه الشعر المنثور؟
ـ لم أكتب الشعر، كل ما كتبته عبارة عن خواطر ومحاولات نثرية بسيطة، والشعر المنثور بحاجة إلى صورة فنية مكثفة، بل إنه يشتمل على موسيقى داخلية، والسردية تدخل في عالم القصة وليس الشعر.

* هل تم مسرحة بعض أعمالك القصصية؟
ـ نعم، لقد تم ذلك أكثر من مرة في مسرحية (المناقير) حيث حولت القصة إلى عمل مسرحي، حيث وفق البعض منها وكان الإخراج جميلاً وناجحاً. وكذلك مسرحية (رائحة الرمل) التي اشتغل عليها المخرج عزيز خنون لمسرح الفجيرة التجريبي.

* الحركة الكشفية في الإمارات استأثرت باهتمامك، وقمت بتأليف كتابين عنها.. ترى ما السبب؟
ـ بحكم انتمائي لهذه الحركة وأنا طالب، واستمريت حتى وصلت إلى مراحل قيادية، وهي خدمة اجتماعية، وقتها لم يكن أحد كتب في الإمارات عن الحركة الكشفية، فكتبت خدمة للشباب والمهتمين.

* كيف تنظر إلى المهرجانات الثقافية اليوم مقارنة بالثمانينات؟
ـ المهرجانات الثقافية في الثمانينات في الإمارات كانت شعلة من الحماس والاندفاع والنشاط من قبل المعنيين والجمهور على حد سواء، أما في الفترات الأخيرة فقد تقلص الحضور، وكذلك فإن النوعية التي كانت تحضر في السابق مختلفة عن الحالية، حيث كان في الماضي مبدعون من شعراء وأدباء متأججون بالحماس والروح الوطنية العالية أمثال نزار قباني والجواهري ومحمود درويش، لكن الحياة صعود وهبوط، والإبقاء على هذه الأنشطة مهم جداً لخلق وعي متجدد، تعجبني الشارقة، واهتمام سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي شخصياً، ودائرة الثقافة والإعلام بالجانب الثقافي بشكل يومي ومستمر، وبالذات في أيام الشارقة المسرحية التي عملت صدى كبيراً، وتواصلاً بين المثقفين والجمهور، سواء داخل الإمارات أو خارجها، وكذلك معرض الكتاب الذي يعتبر علامة بارزة من علامات النشاطك الثقافي والأدبي والمعرفي.

* ماذا يعني لك البحر؟
ـ البحر هو الحياة، هو المستقبل، هو الأمان عندما تتصحر الأرض، أنا أجزم عندما أكون بجوار البحر أنني أشعر بأمان كبير، ما الذي يضمن هذا النفط وانتهائه، البحر وحده ضامن للحياة، لذلك فهو الأمان دائماً وهو الأب والأم وكل شيء وهو الدائم أبداً، أنا أثق في البحر جداً ولا أثق في الآخرين.

* هل يحس إبراهيم مبارك بالتفاؤل من المستقبل؟
ـ على الرغم من هذا الوضع السيء الرديء، حيث لم نصل في تاريخنا إلى القريب إلى هذه المرحلة من السوء، ولكن عندما أرى عناصر في غزة وجباليا وجنين ونابلس تقاوم، وترفض الذل والهيمنة والانكسار أدرك أن الإنسان العربي لا يمكن أن يهزم مهما قست الأيام عليه، وهو يزداد صلابة، ذلك أن الروح الرافضة المقاومة للهيمنة تجعل عند الإنسان أملاً، كذلك فإن وجود التاريخ العربي الطويل من الكفاح والانتصارات على الأعداء والثقافة والعلم يجعلنا نؤكد أننا أمة حية وغير قابلة للخنوع والذل والاستسلام.