الكوني لـquot;إيلافquot; بعد منحه quot;وسام الفروسية للفنون والآدابquot; الفرنسي:
أزمتنا أخلاقية.. و أمتنا لا تريد أن تعترف بعلتها المميتة

دبي من عمر الأنصاري: رثى الأديب العربي والعالمي إبراهيم الكوني عاصمة الثقافة العربية بيروت مؤكدا أنه على يقين من أن ما تتعرض له هذه العنقاء الباسلة سوف يجعلها تبعث من محنتها حية برغم كيد سادة هذه الدنيا الذين كانوا وما زالوا العدو الألد لصوت الرب (الضمير) ولرسالة نبيلة بشرت بها بيروت دوما: الحرية!
وقال الكوني الذي تحدثت إليه quot;إيلافquot; من منزله بالألب السويسري بمناسبة حصوله مؤخرا على quot;وسام الفروسية للفنون والآدابquot; الفرنسي، الذي يعدّ من أرفع الأوسمة التشريفية في فرنسا، أن quot;الأزمةquot; التي تعيشها الأمة العربية اليوم ليست أزمة سياسية أو ثقافية بقدر ما هي quot;أزمة أخلاقية لأمة لا تريد أن تعترف بعلتها المميتة ما دامت تصر أنها خير أمة أخرجت للناس.. وتتجاهل الوصية الإلهية الأخرى القائلة بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمquot;.
مؤكدا أن quot;صورة العرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أكثر تعقيدا من أن يفلح المثقف العربي في تغييرها. مشيرا إلى أن أزمة المثقف العربي لا تكمن في عسر إيصال خطابه إلى الآخر فحسب، ولكن بسبب quot;المحنة الأخلاقيةquot; المتمثلة في اليقين المسبق بتميز موهوم، لا يختلف عن يقين العبرانيين بالتفوق الناجم عن القناعة بأنهم وحدهم شعب الله المختار.
الكوني الذي تسلم الوسام الفرنسي جراء إسهاماته الاستثنائية في مجال الرواية لا في فرنسا وحدها، ولكن في العالم أجمع حسب ما ورد في بيان وزارة الثقافة الفرنسية بالمناسبة، فرغ من كتابة رواية ملحمية جديدة بعنوان ( نداء ما كان بعيداً ) ستصدر تباعاً في ثلاثة أجزاء عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، وتتناول حقبة تاريخية هامة من تاريخ ليبيا الحديث وتدور أحداثها في القرن الثامن عشر.
الكوني الذي كرم في فرنسا، اختارته مجلة quot;ليرquot; الفرنسية العام الماضي عربيا وحيدا بين 50 روائيا في العالم اليوم يمكن ملاحظة نتاجاتهم بوصفها تمثل quot;أدب القرن الـ21quot;، وذهبت لتسميتهم بـquot;50 كاتبا للغدquot;. وفيما يلي نص أجوبة الكوني عن أسئلة quot;إيلافquot;

*أولا .. كيف يصف لنا الكوني المأساة التي تعيشها بيروت الثقافية، وما تتعرض له مطابعها ومكتباتها في ظل العدوان الإسرائيلي؟
- بيروت ليست واحتنا نحن الممسوسين فحسب، ولكنها كانت دائما نقطة ضعفنا. لأننا في بيروت ولدنا بالروح جميعا، وأخفينا في عبّها وصايانا. لأنها الكاهنة الوحيدة في هذه الدنيا التي أوتيت الشجاعة في أن تحتضن رسالتنا. وقد كانت أرواحنا تنزف طوال الربع الأخير من القرن الماضي بسبب نزيفها في الحرب الأهلية، وفي نزيفها إبان عدوان الثمانينيات، وكذلك أثناء صراع أسياد هذا العالم على ساحتها. واليوم عندما تتعرض لهذا الفصل الدموي الجديد من فصول المهزلة الإنسانية التي لا تنتهي (بسبب جنون هؤلاء السادة الذين لم يكونوا ليرتضوا امتهان عمل كالسياسية لو لم يميتوا في أنفسهم الضمير أصلا) فإنما يقصف الغزاة الوجدان الذي كان الضمير الحقيقي، الضمير الروحي، للأمة بهدف تخريب وديعتنا، وتخريب حقيقتنا . لأن الغاية هي النيل من القيمة المتمثلة في الهوية الروحية . ولأن بيروت معبدنا الذي يحتضن أسفارنا فإنها لا تحترق دون أن تلتهم نيران الحريق قلوبنا التي استودعناها جدران المعبد.
وسيرة الإمبراطور الروماني الذي أراد أن يستنزل القصاص بأحد الحكماء تقول انه سلب هذا الحكيم كل ما يملك، وأخضعه لضروب التعذيب، ونحر حتى ذريته أمام عينيه دون أن يرف جفن لهذا الحكيم . وعندما أمر الإمبراطور إلقاء كتبه في النار تنفيذا لمشورة أحد الدهاة لم يتردد الحكيم في القفز وراء كتبه في النار!
قلوبنا أيضا في النار اليوم، لأن المعبد الذي يحوي كتبنا في النار!
وبرغم هذا فإني على يقين أن هذه العنقاء الباسلة سوف تبعث من محنتها حية برغم كيد سادة هذه الدنيا الذين كانوا وما زالوا العدو الألد لصوت الرب (الضمير) ولرسالة نبيلة بشرت بها بيروت دوما: الحرية!
وعل محنتها (ومحنتنا معها) طوال الثلاثين عاما الماضية لهي البرهان على أزمتنا الأخلاقية.

* كرمتم كثيرا من قبل المحافل الدولية، فهل تم تكريمكم عربيا بالمثل؟
- أي الأمرين أنبل: مبدع يكرمه وطنه، أم مبدع يكرم وطنه؟ لا شك أن الأنبل أن نقوم نحن بتكريم أوطاننا بدل أن ننتظر تكريما من أوطاننا. لأن هذا يعني أن المبدع يمارس رسالته في الحالة الأولى ، بل يسدد دينا . أما في الحالة الثانية فهو ينتظر كرامة من وطن لم يعترف يوما بكرامة لنبي في رحابه. المبدع في الحالة الأولى يهب . يعطي بسخاء دون أن ينتظر جزاء. ولكنه في الحالة الثانية ينتظر إحسانا . وشتان بين مخلوق يهب وآخر يأخذ!
فإذا تفضلت المحافل الدولية بتكريم مبدع فهذا يعني أنها لم تقم بتكريم المبدع في واقع الأمر بقدر ما يعني أنها قامت بتكريم الوطن الذي ينتمي إليه هذا المبدع. قامت بإكبار اللغة التي بفضلها تلقى العالم وصاياه المتمثلة في مزموره. ذلك ان اللغة هي روح الأمة التي ينتمي إليها هذا المبدع أو ذاك، ولم تكن يوما مجرد خطاب. وتكريم صاحب اللغة إنما يعني اعتراف هذه المحافل بتفوق لا المبدع الذي يستخدم اللغة، ولكن الاعتراف بتفوق روح الأمة التي تحملها هذه اللغة. ولهذا من الطبيعي جدا أن ننال اعتراف الأباعد بإبداعنا، في حين يبخل به علينا الأقارب!

* الكوني صاحب الحضور اللافت في المنتديات الدولية متهم بقلة الحضور في المنتديات الثقافية العربية.. لماذا؟
- طبيعة الحضور في المنتديات الدولية تختلف عنها في المنتديات الثقافية العربية. فالحضور في المنتديات الدولية حضور للنص قبل أن يكون حضورا للشخص الذي أبدع النص كما هو الحال في المنتديات الثقافية العربية. في المنتديات الدولية ، سيما الأوروبية ، المبدع في حضور ما دام النص حاضرا في الأسواق لأنه هو السلطان وليس صاحب النص .
وحتى في حال حضور صاحب النص فإن ذلك لن يكون سوى بمثابة هامش لإيضاح المتن لا العكس كما هو الحال في أوطاننا التي يغترب فيها المتن ليحل محله صاحب المتن. وهو إشكال عائد إلى تقاليد أناس يقرأون وأناس يرون في القراءة ترفا يمكن الاستغناء عنه.

* كيف يشخص لنا الكوني quot;الحالة الراهنة للثقافة العربيةquot; هل أزمتنا سياسية أم ثقافية، أم ماذا؟
- أزمتنا قبل أن تكون سياسية أم ثقافية أم غيرها هي أزمة أخلاقية. وتشخيص هذه الأزمة يستعسر في عجالة، ولكن اليقين الذي لا يخفى على أحد هو أنه من المستحيل أن يستشفي إنسان من مرض ما دام هذا الإنسان يرفض أن يعترف بمرضه. أزمتنا لهذا السبب أخلاقية لأننا أمة لا تريد أن تعترف بعلتها المميتة ما دامت تصر أنها خير أمة أخرجت للناس وتتجاهل الوصية الإلهية الأخرى القائلة بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهي وصية سماوية أعظم شأنا من وصية إله معبد دلفي التي كانت سر قيام، بل واستمرار الحضارة الأوروبية، والمنقولة على لسان سقراط : quot; أعرف نفسك!quot;

* هل تعتقدون أن المثقف العربي استطاع ترسيخ صورة مغايرة عن العرب بعد أحداث الحادي عشر quot;سبتمبرquot;؟
- صورة العرب بعد أحداث سبتمبر أكثر تعقيدا من أن يفلح المثقف العربي في تغييرها لأسباب كثيرة يستحيل تحليل حقيقتها في عجالة سيما وأن جلها خارج عن مشيئة المثقف ، واقلها تكمن في إمكاناته. وهو لن يستطيع أن يفعل شيئا في تغيير هذا الواقع حتى لو شاء ، لا لأن الأنظمة السياسية تكمم فمه وتضع في طريقه العراقيل فحسب، ولكن لأنه يعاني شللا في اللسان لسببين: أولهما يتعلق باللغة كخطاب، وثانيهما يتعلق بعسر إيصال هذا الخطاب إلى الطرف الآخر. أعني أن محنة هذا المثقف لا تكمن في عسر إيصال خطابه إلى الآخر (الذي قد يتمثل في مشكلات عملية كالترجمة)، ولكن في عسر فهم خطابه أيضا. وهو عسر فهم راجع بالأساس إلى المحنة الأخلاقية التي تحدثنا عنها منذ قليل والمتمثلة في اليقين المسبق بتميز موهوم (أو فلنقل غابر) الذي لا يختلف عن يقين العبرانيين بالتفوق الناجم عن القناعة بأنهم وحدهم شعب الله المختار. هذا في حين تسلح المخاطب ( أو الآخر ) بيقين بسيط كان سر سلطانه دائما ألا وهو: quot;أعرف نفسك!quot;.