الأهرام: الثلاثاء: 12. 07 . 2005


هل أنت حصان؟‏..‏ لا‏..‏ أنا إنسان‏..‏ إذن فأنت ثلاثة أحصنة‏..‏ كيف؟ الروائي الايطالي أري دي لوكا يقول إن عمر الإنسان أصبح الآن يساوي ثلاثة أحصنة‏..‏ ومتوسط عمر الحصان‏25‏ عاما‏..‏ فقس عمرك بهذا المقياس الجديد‏..‏ هل أنت في مرحلة الحصان الثاني أم الثالث‏..‏ طبعا مرحلة الحصان الرابع أمنية غالية لا ينالها إلا المقربون‏...‏

تذكرت هذا الكلام وأنا أري البشر في نيويورك يتحولون الي جياد مرهقة تجر عربة الحداثة‏...‏الكاتب الأمريكي أرثر ميللر يقول لك ان التكنولوجيا دمرت قيمة الانسان فتشيأ وأصبح إما زبونا لبائع أو عاملا تحت امر مدير أو فقيرا أمام غني‏..‏ أو مجنون في السرايا الصفراء‏..‏ آخر احصائية تؤكد أنه من بين كل ألف شخص نيويوركي هناك‏6,6‏ ينزلون ضيوفا علي نفقة المصحات العقلية في نادي المجانين‏..‏

اخلق دائما لنفسك شهوات جديدة‏..‏ هذا هو جوهر الحضارة المدنية‏..‏ اخمد دائما هذه الشهوات‏..‏ هذا هو جوهر رسالة الأديان‏..‏ هل تريد أن تختبر نفسك‏..‏ مشوار صغير الي مانهاتن‏..‏هي مدينة الملائكة والشياطين‏132‏ جنسية تتحرك افقيا ورأسيا وتمشي علي الحائط مثل سبايدر مان الرجل العنكبوت‏..‏ انا صعدت الي الدور الخامس والاربعين‏(‏ في الاسانسير طبعا‏)‏ لأسكن في شقة في شبه ناطحة سحاب يقطنها ابناء العمومة الاخوة اليهود المليونيرات‏..‏الخواجة إلياس وهو مصري فلسطيني مسيحي كان يحلو له أن يداعبني بين الحين والآخر قائلا‏..‏ هه‏..‏ احذر من التطبيع‏..‏ وكنت أرد المداعبة‏..‏ ولماذا لم تحذر نفسك من قبل‏..‏ فيقول اطمئن انه مجرد فاينشيال تطبيع‏..‏ اي تطبيع بيزنيس فقط‏,‏ كل شيء هنا قابل للبيع والشراء حتي الارهاب‏..‏ استثمرته شركات صناعة برامج لعب الاطفال‏..‏ لعبة‏(‏ البلاي استيشن‏)..‏ أغلب ألعابها مارينز يطارد الارهابي‏..‏ وعليه أن يدمره قبل أن يدمر الارهابي المدنية الحديثة‏..‏

الحياة كلها اصبحت مبرمجة علي اقراص ممغنطة علي سي دي‏..‏ وكمبيوتر المستقبل سيكون من الناحية النظرية قادرا علي فعل كل شيء يقوم به الانسان ماعدا أمرين‏..‏ ان يكون متدينا‏..‏ وأن يكتب شعرا‏..‏ صح‏..‏والأمريكيون يهجرون احيانا لغة الآي تي‏..‏ ويتجهون الي الكنائس طلبا للخلاص من لغة الآي آي والوجع والآلام النفسية والروحية التي يتعرضون لها‏..‏ دخلت كنيسة ريفرسايد‏,‏ وهي اشهر وأعرق الكنائس في نيويورك‏..‏ كنت أجلس في الصف الثالث علي الشمال‏..‏ بدأ القداس والاحتفالية التي يشارك فيها ممثلون عن الاديان الشهيرة جميعا اليهودية والمسيحية والاسلام والبوذية والكونفوشية‏..‏ ومن المفارقات اللطيفة‏..‏ ان سيدة كانت تقف امام المكان الذي كنت أجلس فيه‏..‏ وتشرح وتترجم بلغة الاشارة وقائع الاحتفال‏..‏ ومن عجب انها ركزت كل جهدها تجاه الصف الذي كنت أقعد فيه‏..‏ وظلت تفعل ذلك طوال القداس وتوجه نظرها الي‏..‏ اندهشت كثيرا‏..‏ ثم اكتشفت المقلب‏..‏ لقد كنت اجلس خطأ في مقاعد الصم والبكم‏..‏ فجاهدت طوال الموعظة ان أبدو‏(‏ أخرس أصيل‏)‏ حتي لا يكتشف أمري وأطرد شر طردة من الكنيسة‏...‏

الشيخ أحمد دويدار إمام المركز الاسلامي في وسط نيويورك‏..‏ كان ممثل الاسلام في هذه الاحتفالية‏,‏ وهو طراز رفيع من الدعاة السفراء للاسلام‏..‏ تحدث بإنجليزية راقية عن القواسم المشتركة بين الأديان من خلال شروحه لسورة الفاتحة‏..‏ ثم بدأ بتلاوة قرآنية رائعة هزت أركان المكان وأعقبها تصفيق حاد من الحاضرين‏..‏ القساوسة والحاخامات يتبارون في إلقاء الموعظة ووجوه الآلاف من الحاضرين في حالة صفاء وسمو روحاني وطمأنينة وكأنهم ملائكة يعادلون شيطنة الحداثة في الشارع الأمريكي‏..‏

الظاهرة اللافتة للنظر هنا‏,‏ ان الكنائس والمعابد تتحول الي مجمع اديان حيث تسود لغة التسامح والتعايش السلمي بين الجميع‏..‏ اما خارج دور العبادة الأمر مختلف‏..‏ المهاجرون في بروكلين والجاليات العربية والاسلامية في كوينز يعيشون في مأزق كبير بين الاندماج والانعزال‏..‏ وهما أمران أحلاهما مر‏..‏ ومن هنا كانت ظاهرة الجيتو الاسلامي‏...‏

الاندماج يهدد الهوية في نظرهم والقيم والعادات والتقاليد‏,‏ ويخافون علي الجيل الثاني من التأمرك‏..‏ بينما الانعزال هو انتحار سياسي اجتماعي‏..‏ ماذا يفعلون؟‏..‏ للأسف الشديد اصبحت حياتهم أشبه بحياة التجمعات اليهودية في حارة اليهود‏..‏ الجيتو اليهودي‏..‏ شوارع تكاد تكون مغلقة عليهم‏,‏ فيها المقاهي والشيشة وفيها المساجد والمراكز الاسلامية ومحال البقالة والجزارة ومطاعم الكباب ودكاكين الحلويات الشرقية‏..‏ والجلباب هو الزي الأكثر انتشارا في هذه الشوارع‏..‏ معذورون أم مخطئون؟‏..‏ في لقاء فكري استضافني فيه عصام البدري رئيس النادي العربي بالأمم المتحدة‏,‏ امتلأت القاعة بالمصريين والعرب وكان محور الأسئلة‏:‏ ما الذي أدي بالمسلمين والعرب الي هذا التخلف والانحطاط؟

نفس الحديث تكرر في منزل الفنان التشكيلي الأمريكي جون فيليبس عاشق مصر والجلابية المصرية والذي يمتلك بيتا ريفيا جميلا في الأقصر‏..‏ راح يحدثني عن روعة بلادنا وكنوزها وأنها مؤهلة للحاق بقطار التقدم والحداثة‏..‏ قلت له‏..‏ما دليلك علي ذلك‏..‏؟ قال عبدالموجود‏..‏ حارس بيتي الريفي في الاقصر‏..‏ مثال للمفهومية المصرية والذكاء والألمعية‏..‏ كان في ضيافة جون فيليبس مجموعة من الشباب العربي‏,‏ أطلق علي تجمعهم اسم منظمة ناب‏,‏ قدمهم لي احمد العيسوي الأب الروحي لهذه المجموعة وهو يراهن عليهم كسفراء للعرب في مواجهة المنظمات اليهودية‏..‏ وهو ما اكده سراب ونزار ومها وسارة وكريم من أنهم سيقفون بالمرصاد أمام منظمة ايباك اليهودية‏.‏

استبشرت خيرا بهذا الجيل القادر علي ارتداء بزة الحداثة الغربية بمهارة فائقة وبسهولة‏,‏ مثلما يرتدي عبدالموجود الجلابية الصعيدي ويرطن بالانجليزي‏,‏ ويضع علي حجره جهاز اللاب توب‏..‏ ويقول‏:‏ صحيح أنا راجل صعيدي لكن حداثي جدا يا بوي‏...

كاتب من مصر وعنوان المقال الأصلي: عبدالموجود الحداثي جدا‏..!!‏