الخميس:05. 01. 2006

جاسم بودي

كما الهدوء الراقي الذي واكب مسيرته، غادرنا أمس بصمت من عيار ثقيل لم نتوقعه.

رحل الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم حاكم إمارة دبي بعيداً آلاف الأميال عن إمارته، وهو الذي ما ترك بحراً إلا وعبره، وجواً إلا واخترقه، وبراً إلا واجتازه... من أجل إعلاء شأن دبي في كل الأمور السياسية والإقتصادية والمالية والسياحية والرياضية.

صنف مميز من الحكام العرب لم نعهده... كعرب، شخصية غردت خارج سرب النمط التقليدي للسلطة وأثارت علامات إستفهام واستغراب إنتهت مع بدء حصد النتائج، وتحولت علامات إعجاب وتقدير وأحياناً علامات حسد من بعض العاجزين.

صنف مميز من الحكام سيكتب عنه الكثير، لكن أهم ما في مسيرته فلسفة الحكم نفسها، فالفقيد الكبير تولى مناصب تنفيذية وإدارية على مستوى الإمارة قبل الإتحاد، ثم تولى مناصب رئيسية على مستوى الدولة الإتحادية بينها تشكيل وزارات، وفي ظل مقارباته لتجاربه إكتشف الكيمياء الخاصة بطبيعة التنمية والتطوير، تلك الكيمياء المؤلفة من عناصر الحرية والإنفتاح والمرونة القانونية والتشريعية واللامركزية الإدارية الموسعة والمشاركة في صنع القرار ومعرفة الآخر وبناء علاقة مع العالم واستقطاب أفضل ما عنده... تلك الكيمياء التي انتقلت إلى فكره السياسي والإداري بالوراثة من والده الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم الذي كان الناس يرونه سابقاً لعصره وكان هو يرى العرب متخلفين عن عصرهم.

بهذه الذهنية المتحضرة، قاد مكتوم إمارة دبي وتولى مسؤولياته في الدولة الإتحادية، تفرغ للإستراتيجيات الكبرى في الدولة والإمارة، واكتفى بالإشراف وإعطاء الرأي والنصيحة تاركاً لأشقائه وعلى رأسهم ولي العهد الشيخ محمد بن راشد إدارة التفاصيل اليومية، فلم يتدخل في كل شاردة وواردة، ولم يحوّل القرارات إلى لجان واللجان إلى دراسات والدراسات إلى أبحاث... كان مع القرار النافع والحيوي ومع سرعة تنفيذه طالما أن ذلك لمصلحة الإمارة والإتحاد.

ولأنه عرف العالم جيداً عبّد الجسور معه وفتح له الأجواء والموانئ. أدرك قبل غيره كيفية الدخول إلى عقل الآخر من أجل الحوار والتعاون وكان حاضراً في كل مناسباته السياسية والإجتماعية والإقتصادية والرياضية بلياقة ولباقة واقتدار.

غادرنا أمس بصمت من عيار ثقيل لم نتوقعه، لكن quot;دبيquot; التي حلم بها تركها واقعاً ينبض بالحيوية، يديره بإقتدار محمد بن راشد، الرجل الذي زرع إنجازاته في كل صرح تنموي في الإدارة ومهرها ببصمته الوراثية الممتدة من راشد إلى مكتوم... إليه.

رحل بعيداً آلاف الأميال عن إمارته... صمتت الموانىء التي شارك في تحويلها رئتين لدبي، ضاقت على سفن العالم وطائراته واتسعت لتحضن جثمانه العائد المكفن بوشاح النجاح.

...إنا لله وإنا إليه راجعون.