الجمعة:20. 01. 2006


د. رغيد الصلح

يأتي العام الجديد ومعه خيبة أمل كبرى تصيب فرقاء من المعنيين بالعلاقات الدولية وبمستقبل النظام الدولي.

العام الجديد، وبالأحرى النصف الثاني من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، يحمل معه خيبة أمل الى الذين توقعوا أو بالأحرى تطلعوا الى انحسار العولمة انحساراً نهائياً. وتنبع هذه الرغبة وتلك التوقعات من اعتقاد بأن العولمة تتصل اتصالا وثيقا بتنامي الشركات المتعددة الجنسية التي تتسم بالشراهة والسعي الى الربح بأية وسيلة كانت، وبإحكام هيمنة عدد قليل من الدول خاصة في الغرب المتسارعة على الاقتصاد العالمي. فمن بين عدد هذه الشركات الذي وصل خلال التسعينات الى نحو 73،000 شركة، قدر لعدد ضئيل لا يتجاوز المائتين منها التحكم بالتجارة الدولية، وكمظهر من مظاهر العولمة فقد تضاعف حجم نشاط هذه الشركات على النطاق العالمي خلال عقد واحد من الزمن. ورغم ان مؤيدي العولمة حاولوا الايحاء بأن هذه الشركات هي ldquo;عالميةrdquo; ولا تنتمي الى اية دولة معينة، الا ان الواقع هو ان مقراتها ومكاتبها الرئيسية موجودة في تسع دول فقط منها سبع من دول الغرب مضافاً اليها اليابان وكوريا الجنوبية. وهذه الدول تستأثر بنحو 96% من أرباح الشركات المائتين.

وخلافاً للانطباع الشائع، فإن أكثر هذه الشركات (62 شركة) موجودة في اليابان ومن بعدها تأتي الولايات المتحدة (53) الا ان هذا لا يعني ان اليابان هي التي تتحكم بالاقتصاد العالمي عبر هذه الكيانات الاقتصادية العملاقة. فاليابان هي عملاق اقتصادي ولكن حجم اقتصادها لا يزال يلي حجم الاقتصاد العالمي. ثم ان اليابان لا تزال قزماً سياسياً وعسكرياً بالمقارنة مع الولايات المتحدة. اما الولايات المتحدة فإن قوتها العسكرية تسمح لها بأن تتصرف كrdquo;حكومة عالميةrdquo;، كما يقول ميخائيل ماندلبوم، خبير العلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز في واشنطن، في كتابه الجديد ldquo;كيف تتصرف أمريكا كحكومة عالمية في القرن الحادي والعشرين؟rdquo;.

سواء كانت الولايات المتحدة حكومة العالم أو اليابان فإن نقاد العولمة يقولون انها ليست ظاهرة اقتصادية بحتة، بل لها انعكاسات مباشرة على المعطيات السياسية في العالم. ويقدم نقاد العولمة أمثلة عديدة على العلاقة الوثيقة بين الشركات المتعددة الجنسية، من جهة، واللاعبين السياسيين، من جهة اخرى. فشركة ميتسوبيشي العملاقة في اليابان تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي يتزعمه كويزومي. وتمد ميتسوبيشي هذا الحزب الذي حكم اليابان بعد الحرب العالمية الثانية باستثناء فترات قصيرة، بما يقارب ال37% من ميزانيته السنوية. وأخذا بعين الاعتبار المصالح التجارية الضخمة لشركة متعددة الجنسيات مثل ميتسوبيشي، وحرصها على اسواقها واستثماراتها في الخارج، وخاصة في الولايات المتحدة، فإن للشركة افضليات سياسية صريحة، وهذه الافضليات تؤثر بالضرورة في خيارات الحزب الياباني الحاكم، وعلاقات اليابان الدولية.

ويقدم نقاد العولمة امثلة اخرى على العلاقة الوثيقة التي تربط شركات كثيرة اخرى في العالم مثل العلاقة التي تربط بين شركة بوينج بوزارة الدفاع الأمريكية وكذلك العلاقة التي نشأت في التسعينات بين امبراطورية روبرت ميردوخ الاعلامية المتعددة الجنسية وحزب العمال البريطاني الحاكم عبر زعيمه توني بلير.

ان هذه العلاقات لا تعني ان هذه الاحزاب تكيف معتقداتها، بالضرورة، انسجاما مع مصالح الممولين. ولكنها تدل على وجود نمط من التحالفات يضم عددا من اللاعبين الاقتصاديين والسياسيين وذلك بهدف الحفاظ على الوضع الراهن في العالم، أي وضع تتمركز فيه القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في عدد محدود من دول العالم ولمصلحة هذه الدول. وهذا بالطبع يختلف عن الصورة التي يقدمها مؤيدو العولمة التي تشدد على انها، أي العولمة، سوف تأتي للمجتمع الدولي بقدر افضل من العدالة والمساواة مما هو متحقق الآن.

مناهضو العولمة اعتبروا محقين ان العولمة ليست ظاهرة طبيعية مثل الأعاصير أو الزلازل. وفيما بدت العولمة وكأنها القدر المحتوم الذي لا تمكن مقاومته أو ايقافه أو رده والخلاص منه. وبينما طفق البعض يتحدث عنها وكأنها ظاهرة لا محرك لها ولا فاعل وراءها اي كأنها تتحرك بقوة الدفع الذاتي الذي لا سبيل للتأثير فيه أو لتبديله، فإن نقادها اعتبروا ان مثل هذه التوصيفات لا تطابق الواقع، فإحاطة العولمة بمثل هذا الغموض هي في تقدير لفيف من نقادها، من صنع قيادات سياسية واقتصادية ترغب في تطبيق مشاريع وقرارات تكلف المجتمعات تضحيات جسيمة. وحتى يقبل المواطنون والمواطنات مثل هذه التضحيات، فإنه من الأفضل بكثير ان يقال لهم انها من حتميات التاريخ وإن القادة ينفذونها لأنهم مضطرون الى ذلك وليس لأنهم يرغبون في تنفيذها.

وإذ ينزع عن العولمة طابعها السحري، وتجرد من طابعها الحتمي، فإنه يغدو من الممكن التعامل معها مثل أية سياسة من السياسات التي يأتيها الحكام وذوو المصالح من أصحاب النفوذ والتأثير. ومع صعود الحركة العالمية المناهضة للعولمة، فقد ازداد الاعتقاد بإمكانية إيقافها وإجبارها على التراجع المستمر وصولاً الى ضمورها واضمحلال تأثيرها الباهر في المسرح العالمي.

بيد ان هذه التوقعات تبدو أقرب الى التفكير الرغائبي، فالعولمة موضع الشكوى لا تزال تشق طريقها على المسرح العالمي الاقتصادي. ان عملية التمركز الاقتصادي مستمرة دون توقف. الشركات الكبرى تأكل الصغرى أو تشتريها. الفصل الأخير من فصول الغزوات التي تمارسها هذه الشركات العملاقة هو ليس من أمريكا الى الخارج، بالعكس انه من ألمانيا الى أمريكا حيث تقوم الشركات الالمانية الضخمة مثل شركة ثيسن كروب واديداس بشراء شركات أمريكية لكي توسع أسواقها وتضاعف أرباحها وتزيد من زبائنها. انها عمليات ضمن العائلة الاطلسية الواحدة التي تمدها العولمة بقدرة اضافية على الاستحواذ على الاسواق العالمية وعلى الدول والقارات.

هذا المسار سوف يستمر في العام الجديد وفي الأعوام التالية الى ان يعاد تشكيل النظام الدولي ومعه الثروات في العالم فننتقل الى تعددية سياسية واقتصادية لم تتحقق حتى الآن.