الخميس: 2006.08.24

د. وحيد عبد المجيد

28 عاماً تفصل بين قرار مجلس الأمن رقم 425، الذي صدر عقب أول غزو إسرائيلي لجنوب لبنان في مارس 1978، والقرار 1701 الذي صدر أخيراً. القرار 425 هو الذي نصَّ على إنشاء قوة الطوارئ الدولية، لحفظ السلام في جنوب لبنان quot;يونيفيلquot;. وجاء القرار 1701، بعد هذه الفترة الطويلة، ليزيد عدد هذه القوة من حوالى ألفين إلى 15 ألف جندي، على أن يصدر قرار تالٍ من المجلس يعطيها مهمات إضافية، ويتيح زيادة تسليحها لأداء هذه المهمات.

فالمنهج واحد، إذن، في القرارين اللذين يهدفان إلى إيجاد منطقة فاصلة بين إسرائيل والقوى التي تقاومها في جنوب لبنان، كانت هذه المقاومة فلسطينية بالأساس في عام 1978، وصارت لبنانية الآن، ولكنها ظلت مقاومة غير نظامية.

ومن عجب أن يظل المجتمع الدولي أسير منهج لم يحقق أي نجاح في وضع حد للصراع في جنوب لبنان، على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود. وليس ثمة ما يدل على أن هذا المنهج، الذي يقوم على فكرة المنطقة العازلة، يمكن أن ينجح اليوم فيما فشل فيه بالأمس. وليس هناك ما يفيد، في الوقت نفسه، أن المجتمع الدولي وخصوصاً القوى الكبرى فيه مستعدة لاستبدال منهج أكثر جذرية به، بحيث يكون الهدف هو السعي إلى حل للصراع وليس فقط إلى فصل بين أطرافه.

ولذلك يصعب التفاؤل بأن يحقق القرار 1701 ما لم يفلح فيه القرار 425، وقائمة طويلة من القرارات التي أصدرها مجلس الأمن إبان الأزمات المتوالية التي حدثت في جنوب لبنان وارتبط بعضها بغزوات أو اجتياحات إسرائيلية كان أكبرها في عام 1982.

وهذا فضلاً عن تراجع الثقة في مجلس الأمن في الأزمة الأخيرة مقارنة بكل ما قبلها، بسبب تباطئه الشديد في معالجتها، وعجزه عن إصدار قرار يدعو إلى وقف القتال بأية صيغة خلال شهر كامل، على نحو يعزز التساؤل عن جدوى قرار يصدر متأخراً على هذا النحو؟

فلم يحدث منذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945 أن نشبت حرب، فانتظر المجلس شهراً كاملاً قبل إصدار قرار لوقف الأعمال الحربية أو إطلاق النار. فالمعتاد أن تكون المطالبة بوقف القتال هي أول ما يفعله هذا المجلس بحكم مسؤولياته التي ينوب فيها عن المجتمع الدولي.

وهذا هو ما جرى في كل مرة سابقة حدث فيها اعتداء إسرائيلي على لبنان، منذ الغزو الأول الذي بدأ في 14 مارس 1978، إذ أصدر المجلس قراره الأول في تاريخ هذا الصراع (القرار رقم 425) الذي طالب فيه بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية بعد خمسة أيام. أما عندما وقع الاعتداء الإسرائيلي الأكبر على لبنان حتى الآن، الذي بدأ في مساء 4 يونيو 1982، فلم ينتظر المجلس سوى ساعات لإصدار قراره الأول (رقم 508) الذي دعا فيه إلى وقف فوري لكافة الأعمال الحربية بحلول السادسة من صباح 6 يونيو.

ولم يكتفِ المجلس بذلك حينئذ، بل أصدر ثلاثة قرارات أخرى متوالية خلال حوالى أسبوعين على بدء الاجتياح، فلم تمضِ ساعات على القرار 508 حتى أصدر القرار 509 الذي طالب فيه إسرائيل بسحب قواتها من الأراضي اللبنانية بشكل فوري ودون أي شروط.

وإذا كان القرار الثالث رقم 511 الذي صدر في 18 يونيو روتينياً يتعلق بمد ولاية قوة الأمم المتحدة quot;اليونيفيلquot; لمدة شهرين إضافيين، فقد تبعه قرار رابع أخذ الرقم 512 في 19 يونيو داعياً كافة أطراف النزاع إلى احترام حقوق السكان المدنيين دون تمييز ورافضاً كافة أشكال العنف ضدهم.

وهكذا فالفترة التي استغرقها مجلس الأمن ليصل إلى إصدار أول قرار بعد الاعتداء الإسرائيلي الأخير كانت كافية لإصدار أربعة قرارات عقب الغزو الذي حدث في 4 يونيو 1982، بل صدرت هذه القرارات الأربعة خلال أسبوعين فقط.

ولم يتوقف المجلس بعد ذلك عن متابعة مسار حرب 1982 في محطاتها المتوالية وإصدار القرارات التي تعبر عن الشرعية الدولية. وهكذا أصدر ستة قرارات أخرى خلال عام 1982، وهي القرارات 515 و516 و517 و518 و520 و521.

وتواصل اهتمام المجلس بالأوضاع في لبنان وصولاً إلى القرار 1559 المشهور الصادر في 2 سبتمبر 2005، وتوابعه التي استمرت عقب اغتيال رفيق الحريري، وكان آخرها القرار 1686 في 15 يونيو الماضي.

غير أن هذه السيولة الشديدة في القرارات توقفت في الحرب الأخيرة، وأصبح إصدار قرار لوقف إطلاق النار الذي بدأ في 12 يوليو شديد العسر. وهذه حالة غير مسبوقة قد يكون ثمة مبرر لها في الأيام الأولى عندما واجه المجلس وضعاً بدا غير مألوف. فقد كان الطرف الذي بدأ بالقتال، أي quot;حزب اللهquot;، هو الذي يريد وقف إطلاق النار بخلاف ما هو مُعتاد، وهذه حالة غير مألوفة بالفعل، لأن المجتمع الدولي اعتبر عملية (الوعد الصادق) اعتداءً على إسرائيل، وليس مجرد حادث حدودي.

غير أن هذا الوضع غير المألوف قد يكون مبرراً لتأخر مجلس الأمن في إصدار قرار لوقف القتال لعدة أيام، أما أن يقف مشلولاً لشهر كامل تعرض فيه بلد لتدمير منهجي مُنظم، خرَّب معظم بنيته التحتية والكثير من مساكن مواطنيه، فهذا مما لا يمكن إيجاد مبرر له، وخصوصاً بعد أن تبيَّنت بوضوح جسامة المعاناة الإنسانية في حرب لا يمكن أن تقود إلى نتيجة حاسمة لأي من طرفيها.

وما كان لمجلس الأمن أن يصل إلى هذا المدى في تقصيره في التحرك لمواجهة حرب مجنونة، إلا لأنه وقع في أسر الموقف الأميركي الضيق الذي يرى الإرهاب في سلوك أي حركة إسلامية بغض النظر عن الظروف المحيطة. وقد ظلت هذه النظرة مؤثرة بعمق على موقف القوى صاحبة القرار في المجلس، الأمر الذي ظهر في صياغة القرار 1701 الذي صدر ليس فقط متأخراً وإنما مفتقداً الحد الأدنى من التوازن أيضاً.

فالمشكلة الرئيسة في هذا القرار، فضلاً عن عدم جدوى منهج المنطقة العازلة، تكمن في الذهنية التي يعبر عنها أكثر مما توجد في الكثير من بنوده، فالقرار يبدو كما لو أنه يقف عند يوم 12 يوليو الماضي، أو تحديداً عند اللحظة التي انتهت فيها عملية quot;حزب اللهquot; (الوعد الصادق)، وقبل أن يبدأ العدوان الإسرائيلي الهمجي الذي أحدث من الدمار ما يرى البعض أنه لا سابق له إلا قصف برلين خلال الحرب العالمية الثانية.

فقد صيغ القرار وفق ذهنية تفترض أن quot;حزب اللهquot; هو المسؤول عن كل ما حدث، وأن مسؤولية إسرائيل تعتبر ثانوية على الأكثر. وكان في إمكاننا أن نحاول فهم دوافع هذه الذهنية لو أن القرار صدر بناء على شكوى قدمتها إسرائيل إلى المجلس تطلب فيها إدانة عملية quot;حزب اللهquot;، والإفراج عن الأسيرين، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تكرار quot;الاعتداءquot; على أراضيها! فلو أن إسرائيل فعلت ذلك بدلاً من أن تشن كل هذا العدوان الفظيع، لربما جاز فهم منطق القرار 1701 بالرغم من أن عملية (الوعد الصادق) لم تحدث من فراغ، وإنما في سياق صراع طويل، وفي ظل سياق من هذا النوع، كان في إمكان المجلس أن ينظر إلى عملية quot;حزب اللهquot; باعتبارها حادثاً حدودياً لا يصح أن يكون الرد عليه عدواناً رهيباً بهذا الحجم.

غير أن قرار مجلس الأمن يتجاهل هذا السياق، ويغفل العدوان الإسرائيلي ويتعامل مع الأزمة كما لو أن إسرائيل مُعتدىً عليها وليست معتدِية متجبَّرة. وفضلاً عن هذا كله فهو لا يقدم علاجاً جذرياً وإنما يعتمد المسكِّنات التي نصح بها منذ أن أصدر القرار 425 مع زيادة جرعتها، عبر زيادة عدد قوة الأمم المتحدة وتطوير دورها، أي البقاء عند منهج المنطقة العازلة الذي ثبت فشله.

ومع ذلك جاء القرار الذي صدر بالإجماع أفضل من مشروعه السابق في عدد من البنود المهمة، مثل المطالبة بانسحاب القوات الإسرائيلية من المواقع التي احتلتها في جنوب لبنان. فلم يعد ممكناً الاستمرار في تجاهل هذا المطلب بعد أن أبدت الحكومة اللبنانية استعداداً لنشر الجيش الوطني. كما أن هذا الاستعداد حل عقدة القوات الدولية، إذ أصبح منطقياً استبعاد النص السابق على أن تعمل هذه القوات على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

ولكن التحسن الذي حدث في صياغة القرار الذي صدر مقارنة بالمشروع السابق، لم يقترن بأية مراجعة لمنهج ثبت فشله منذ القرار 245، ولذهنية تقف حدود معرفتها بالأزمة عند يوم 12 يوليو الماضي.