الأربعاء 10 يناير 2007
تركيا تتحول من صديقة لبريطانيا إلى عدوة لها بحلول 1914
laquo;لا ينسى العرب الدور الذي لعبته بريطانيا في تأجيج ثورتهم منذ تسعين عاما، ولكنهم لا يغتفرون ما فعله بهم ذلك الدورraquo;. تلك هي العبارة الختامية التي ينهي بها جيمس بار كتابه الذي نتصدى لعرضه ومناقشته هنا. وربما كان دور بريطانيا وراء ما جرى في الجزيرة العربية ومع الشريف حسين أمير الحجاز هو الذي أوحى له باختيار عنوان كتابه خاصة وأنه تخصص في التاريخ الحديث ونال شهادته العلمية الأولى من جامعة أوكسفورد في هذا المجال. وقد بذل جهدا كبيرا في إنجاز كتابه.
تأليف: جيمس بار
وقام بعدة رحلات إلى الكثير من مواقع الأحداث التاريخية والتقى بشخصيات عديدة في العالم العربي، وأمعن البحث في كم هائل من الملفات البريطانية، ولجأ إلى خبراء الطب الشرعي والخطوط لجمع المعلومات عن محتويات الصفحات المفقودة من مذكرات الكابتن توماس إدوارد لورانس المعروف لدينا باسم laquo;لورانس العربraquo; لكي يغطي أحداث عامين مهمين من حرب بريطانيا السرية في الجزيرة العربية بين عامي 1916 ـ 1918.
نرى من الضروري كي نتتبع التفاصيل الكثيرة التي احتواها الكتاب ـ أن نلم بالموقف الدولي الذي كان سائدا منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس عام 1914 حتى انتهائها أواخر عام 1918، رغم أن المؤلف يركز الجانب الأكبر من اهتمامه على الفترة ما بين 1916 و1918 مع عجالة في صفحات قليلة عن الفترة من فبراير 1914 حتى يونيو 1916.
وهو يرى أن السنوات الثلاث من عام 1916 إلى عام 1918 شهدت حرب بريطانيا السرية في الجزيرة العربية مع اهتمام منه بدور ضابط المخابرات البريطانية لورانس حتى أنه يفرط في العودة إلى كتابه الشهير laquo;أعمدة الحكمة السبعةraquo;.
وبهذه المناسبة فقد تيسر لي الإطلاع على خبر نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط من لندن ونشر في بعض الصحف العربية يوم 26 نوفمبر 2006 ويشير إلى أن رسالة كتبها لورانس بيعت في مزاد علني في العاصمة البريطانية مقابل ستة آلاف جنيه إسترليني، وفي هذه الرسالة يدين صاحبها كتابه الذي أشرنا إليه.
ورغم أن بعضا ممن كتبوا عن الثورة العربية الكبرى يمرون مرورا عابرا على علاقة سابقة بين الشريف حسين والإنجليز، ويهتمون بفترة بدء الثورة في الحجاز ضد الحكم العثماني، إلا أننا نجد أن جيمس بار صاحب الكتاب الذي نتناوله يعود بتلك العلاقة إلى وقت مبكر من عام 1914 إذ بدأ الغزل البريطاني لشريف مكة في القاهرة.
ويصف المؤلف قاهرة ما قبل الحرب العظمى، كما كانت تسمى آنذاك، فيقول إنها كانت مدينة كوزموبوليتانية يعتريها القلق مثلما هو حالها في الوقت الحاضر، وكانت شوارعها مزدحمة باليونانيين وأبناء بقية دول جنوب أوروبا وفرنسا وألمانيا ويهود روسيا وشرق أوروبا من كافة المستويات، وأعداد غير محدودة من الإنجليز.
ولقد كانت القاهرة القديمة في العصر الوسيط معقل الفكر الإسلامي، فإذا عبرت البلدة القديمة إلى المدينة الجديدة رأيت رجال الأعمال المصريين وهم يتجمعون على شرفة نادي سباق الخيل وقت الأصيل وهم يحتسون شرابهم وينتقدون الحكومة. وفي نادي الجزيرة الكائن في جزيرة الزمالك التي يحيط بها نهر النيل، تزدحم ملاعب التنس. وفي هذه الأجواء كان دبلوماسي بريطاني شاب اسمه رونالد ستورز يمارس عمله في أول موقع خارج بلاده.
وذات يوم من شهر ابريل عام 1914 ظهر في القاهرة شاب عربي اسمه عبد الله ابن الشريف حسين لكي يشكو من المصاعب التي يواجهها والده مع الحكام العثمانيين، ويطالب البريطانيين بمطلب غير عادي آنذاك. ويقول ستورز في مذكراته بعد سنوات: laquo;وجدت نفسي أمام سؤال ملح عما إذا كانت بريطانيا على استعداد لإمداد الشريف حسين بإثنى عشر أو حتى بنصف هذا العدد ـ من المدافع الرشاشةraquo;.
وكان ذلك الدبلوماسي البريطاني مكلفا بالاجتماع بالأمير عبد الله، وقد رفض ستورز مساعدة شريف مكة ضد العثمانيين، وخفف من وقع هذا الرفض عدم استبعاده إمكانية تحول الموقف في وقت لاحق. وأضاف الدبلوماسي البريطاني قوله: laquo;لا نستطيع أبدا قبول فكرة تقديم أسلحة لاستخدامها ضد قوة صديقةraquo;!!
إشارة خبيثة
لقد كانت إشارته الخبيثة الماكرة إلى احتمال تغير الموقف لاحقا تعود إلى أن العثمانيين لم يعودوا laquo;قوة صديقةraquo; إلا بالاسم بحلول عام 1914، بل اختلفت العلاقة بين القوتين اختلافا كبيرا، ففي الماضي ـ عام 1854- كانت بريطانيا قد اشتبكت في حرب ضد روسيا في القرم للحفاظ على تماسك الإمبراطورية العثمانية باعتبارها تشكل حاجزا ضد التوسع الروسي.
ورغم أن تلك الإمبراطورية كانت قد بدأت في التمزق آنذاك، إلا أنها كانت ما تزال تهيمن على معظم منطقة شرق المتوسط التي تضم الأناضول ومعظم البلقان في اتجاه الغرب، وليبيا ومصر في الجنوب، وسوريا بما في ذلك فلسطين في شرق البحر المتوسط، وكذلك العراق والأطراف الساحلية للجزيرة العربية. وكان الحكم التركي يدير هذه المناطق من القسطنطينية، بمن فيها من يونانيين وأرمن وسلافيين وأكراد ويهود وشراكسة.
وكان المتطلعون إلى الاستقلال من العرب بشكل خاص يزداد شعورهم بالسخط، ولكن مؤلف الكتاب لا يشير إلى تطلعهم إلى الاستقلال ولكنه يصفهم بالطموحين فحسب وكأنه يرجع شعورهم ذاك إلى حرمانهم من الفرص في ظل الإمبراطورية العثمانية.
ومع ذلك تزايد اعتماد السلطان العثماني على الجزيرة العربية لأن الانتماء للإسلام كان يوفر قوة دافعة إلى الوحدة داخل إمبراطوريته المتباينة. وليس هذا فحسب، بل إن قيادته من خلال الخلافة والسيطرة على الحجاز منحته نفوذا بين المسلمين في أنحاء العالم.
وقد شجعه البريطانيون لاعتقادهم أن نفوذ الإمبراطورية العثمانية هو عامل استقرار في أية منطقة مضطربة أخرى، وأن الترويج واسع النطاق لفكرة صداقة بريطانيا للسلطان قد يؤدي إلى تحسين علاقاتها برعاياها المسلمين وخاصة بين الستين مليون مسلم في الهند الخاضعة للاحتلال البريطاني.
ثمن باهظ
وبحلول سبعينات القرن التاسع عشر (1870 وما بعدها) بدأت العلاقات البريطانية ـ العثمانية في الفتور، وأتاحت قناة السويس ـ منذ افتتاحها عام 1869- ممرا جانبيا يخترق الإمبراطورية العثمانية. وعندما غزت روسيا الإقليم العثماني في البلقان بعد ذلك بعامين، لم تتدخل بريطانيا بقوة مثلما فعلت من قبل.
وكان الثمن باهظا مقابل استعداد بريطانيا لمساعدة العثمانيين في التغلب على مشاكلهم المالية الضخمة، واستولت بريطانيا على قبرص عام 1878، ثم على مصر بعد ذلك بأربع سنوات لتصبح مصر عاملا استراتيجيا أساسيا بسبب تزايد اعتماد بريطانيا على الهند اقتصاديا وعسكريا. وازدادت الفرقة بين بريطانيا والإمبراطورية العثمانية.
ومع ذلك ظل مسلمو الإمبراطورية يعتبرون السلطان خليفة للمسلمين. وعندما وقع الصدام بين اليونان والعثمانيين عام 1897 لاحظ المسئولون البريطانيون في الهند بقلق بالغ تعاطف المسلمين الهنود مع إخوانهم في العقيدة ضد اليونانيين رغم بعد اليونان عن الهند في أقصى الجبهة الغربية الشمالية.
وكانت عيون الألمان آنذاك تراقب وتدرك مدى قوة المسلمين وقدرتهم على زعزعة الإمبراطورية البريطانية، وأخذت ألمانيا تشجع العثمانيين على التمسك بالخلافة بقوة. وأثناء زيارة قيصر ألمانيا لدمشق عام 1898 أعلن الإمبراطور الألماني أن laquo;على السلطان والثلاثمئة مليون مسلم الذين يجلّونه كقائد لهم، أن يعلموا أن الإمبراطور الألماني سيظل صديقهم إلى الأبدraquo; وتأكيدا لذلك أهدى للمدينة إكليلا مطليا بالذهب لوضعه على ضريح صلاح الدين الأيوبي، كما اشتركت ألمانيا بخبرائها في الهندسة في بناء القضبان الحديدية والقطارات اللازمة لسكة حديد الحجاز.
دعوة للجهاد
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914 تردد العثمانيون قليلا ثم أعلنوا دعمهم لألمانيا والإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية لتشكيل تحالف ضد بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا.
وبهذا أصبحت الإمبراطورية العثمانية عدوا في نظر البريطانيين، وعلى الفور عادت إلى الأذهان العبارة الماكرة التي كان الدبلوماسي البريطاني ستورز قد قالها للأمير عبد الله في القاهرة. وأطلق العثمانيون دعوة للمسلمين إلى إعلان الجهاد فتحول المكر الإنجليزي إلى البحث عن وسائل لإثارة العرب ضد الأتراك.
وعندئذ تفتق ذهن الدبلوماسي البريطاني عن فكرة معينة هي استغلال مبدأ عربي قديم مؤداه أن الخلافة لابد أن تبقى لقريش وهي التي ينتمي إليها عبد الله وأبوه الشريف حسين، غير أن بعض المسؤولين البريطانيين تخوفوا من ردود الفعل الإسلامية لتدخل بريطانيا في شؤون تخص خلافة المسلمين، فاضطر ستورز إلى إثارة الفكرة بحذر شديد وكتب يقول:
laquo;إنني أقف بشدة ضد أي تلاعب أو تحريف للخلافة ثم أعلن فيما بعد في رسالة له أنه شديد الاقتناع بأن الخلافة يجب أن تعود إلى أشراف مكة، وأن علينا اللجوء إلى كل الوسائل للمساعدة على تحقيق ذلك، وعلى منع تسربها إلى شخص آخرraquo;.
ووصلت فكرة ستورز إلى أعلى المستويات في بريطانيا لأن رئيسه السابق في مصر اللورد كيتشنر كان قد عين وزيرا للحربية في لندن. واستبق الوزير الدعوة إلى الجهاد فبعث برسالة مغرية إلى الشريف حسين ـ عبر رونالد ستورز ـ يقول فيها بدهاء:
laquo;لقد ناصرنا الإسلام ودافعنا عنه حتى الآن عبر الأتراك، وسوف يكون ذلك من الآن فصاعدا في شخص نبلاء العرب، وربما يتم ذلك عندما يتولى عربي عريق الأصل الخلافة في مكة أو المدينة فيحل الخير بعون اللهraquo;.. ولكن رد الشريف حسين كان شديد الحذر وامتنع البريطانيون عن إثارة فكرة كيتشنر لبعض الوقت.
وعادت المسألة إلى الظهور سريعا في بداية عام 1915 بعد أن وافقت الحكومة البريطانية على شن هجوم لإعاقة العثمانيين عن الاشتراك في الحرب. وتقضي خطة الهجوم بإمساك الإمبراطورية العثمانية من خناقها بعملية إنزال في مضيق الدردنيل وشق القوات البريطانية طريقها إلى شبه جزيرة غاليبولي .
ومنها إلى العاصمة لإجبار العثمانيين على الاستسلام ولفتح جبهة جنوبية جديدة ضد النمسا وألمانيا، مع اهتمام متفائل إلى حد ما بالتخطيط لما بعد الحرب، إذ رأى البريطانيون أنهم بمجرد إسقاط السلطان فإن من الواضح أن من يليه في تولي الخلافة سوف يكون الشريف حسين، غير أن الخطط فشلت فشلا ذريعا ومنيت القوة الاسترالية والنيوزيلاندية التي أنزلت في غاليبولي يوم 25 ابريل 1915 بخسائر فادحة.
وعاودت بريطانيا اتصالها بالشريف حسين في محاولة لإبعاد العرب عن الاشتراك في الحرب ضدها، ففي نهاية شهر مايو كان السير هنري ماكماهون قد حل محل كيتشنر في القاهرة باعتباره المندوب السامي البريطاني، وقام ماكماهون بإبلاغ الشريف حسين بأن الحكومة البريطانية ترغب في إجراء اتصالات سرية معه.
وفي نفس الوقت قامت طائرات من القاهرة بإسقاط منشورات فوق جدة خلال شهر يونيو ضد الدعوة إلى الجهاد وبدأت تحفظاته في التلاشي وأصبح أكثر رغبة في التوصل إلى اتفاق مع بريطانيا بسبب تزايد قلقه على أمنه إذ كان يراقب الموقف شرق الحجاز حيث ظهر منافس قوي له منذ سنوات، فضلا عن تعرضه لضغوط متواصلة من الحكومة العثمانية لتأييد الدعوة إلى الجهاد التي أعلنت لأول مرة في 14 نوفمبر 1914.
ولما كان الشريف حسين يعي جيدا الخطط العثمانية للإطاحة به إذا رفض، فقد سعى إلى كسب الوقت وأرسل ابنه الأمير فيصل إلى القسطنطينية لمواجهة الحكومة، وكانت تعليماته له أن يناقش مسألة تأييد الجهاد مع أحمد جمال باشا الحاكم الجديد لسوريا دون الالتزام بأي شيء.
ولو تركنا كتاب جيمس بار قليلا الذي لم يذكر شيئا مفصلا عن ذلك السفاح جمال باشا، وإذا تصفحنا ما كتبه المؤرخون العرب لوجدنا أحاديث طويلة عن المذابح التي قام بها ذلك الحاكم الطاغية في سوريا الكبرى أي في كل من بيروت ودمشق حيث نصب المشانق لعدد كبير من زعماء الحركة القومية العربية الذين كانوا يطالبون بحرية بلادهم واستقلالها، بل إن بعضا منهم كان ينادي بنيل حقوق الإنسان العربي حتى ولو في ظل الدولة التركية.
الطموح القومي العربي
وفي دمشق اتصل قادة الجمعيات السرية العربية في سوريا بالشريف حسين. وكما يقول جيمس بار فإن هؤلاء الزعماء طالبوا بأن يتزعم الشريف الكفاح العربي من أجل نيل مطالبهم في إطار الإمبراطورية العثمانية.
ويرى مؤلف الكتاب أن الشريف حسين ـ بعد أن نقل إليه ابنه فيصل ما دار في اجتماعه مع هؤلاء الزعماء ـ كان ينوي بالفعل أن يتبنى مطالب القوميين العرب الحديثة مثل اللامركزية والحكم الوطني، إذا ساعده ذلك في تقوية شوكته في الحجاز، كما أنه أيضا استملح فكرة وجود مملكة تضم سوريا لأنها توفر الاكتفاء الذاتي للحجاز الذي لم يتمتع به على الإطلاق.
وكان الحجاز قد تأثر بشدة بسبب الحرب وعانى من نقص الأغذية وتقلص عدد الحجاج إلى ربع عددهم المعتاد قبل الحرب، فضلا عن أن الجزيرة العربية كانت ما تزال تستورد البترول من الخارج، كذلك أصبحت الأخشاب نادرة حتى أن أهل مكة كانوا يضطرون إلى بيع أثاثهم الخشبي وأبواب ونوافذ بيوتهم المنقوشة للحصول على خشب الوقود لاستخدامه في طهي طعامهم. وزاد من الأزمة تحويل السفن ـ وخاصة في الهند ـ إلى المجهود الحربي.
ويشير مؤلف الكتاب إلى أن رأي الشريف حسين استقر يوم 13 يوليو 1915 بعد أن اكتشف في أول أيام شهر رمضان المبارك أن الجنود العثمانيين في الحجاز تم إعفاؤهم من فريضة الصيام طوال الشهر والتي تعتبر من أركان الإسلام.. ويضيف المؤلف قوله: laquo;ربما طاف بفكره أن الجنود على جبهات القتال يعفون من الصوم .
وهم في حالة حرب مع الأعداء، ومن ثم فقد استنتج ببساطة أن ما رآه يكشف عن أن العثمانيين يعتبرونه عدوا لهم. وفي اليوم التالي كتب رسالة إلى السير هنري ماكماهون المندوب السامي البريطاني في القاهرة يردد فيها بشدة المطالب التي أخبره بها السوريون عبر ابنه فيصل.
وأضاف أنه إذا أراد البريطانيون ضمان صداقة العرب، عليهم الاعتراف باستقلال الدول العربية. ويعلق المؤلف على هذه الرسالة قائلا: laquo;إن هذه الدول تتضمن ـ بلغة الوقت الحاضر ـ كل الجزيرة العربية ـ ما عدا عدن التي كانت بريطانية آنذاك ـ وفلسطين والأردن والعراق ولبنان وسوريا بالإضافة إلى الشريط الأفقي جنوب تركيا الممتد بين البحر الأبيض المتوسط والحدود الإيرانية.
وذكرت الرسالة أيضا أن على بريطانيا أن توافق على قيام خلافة عربية في مقابل تمتعها بالأفضلية الاقتصادية. وكتب عبد الله بن الحسين ملاحظة توضيحية ولكنها فضحت ضعف موقفه إذ تضمنت التماسا باستئناف كمية الحبوب السنوية التي اعتادت حكومة مصر على منحها للحجاز كل عام.
وعندما بدأنا في استعراض كتاب جيمس بار أخذنا في البحث عن نص تلك الرسالة التي أشار إليها المؤلف فوجدنا أن المؤرخ أمين سعيد الذي ألف ثلاثة مجلدات عن الثورة العربية الكبرى يضمن في المجلد الأول نص تلك الرسالة المؤرخة في يوم 14 يوليو 1915، ونجد في متن الرسالة نفسها ما أورده كتاب جيمس بار على أنه مذكرة أو ملاحظة توضيحية من الأمير عبد الله بن الحسين يلتمس فيها استئناف إرسال المعونة المصرية.
كما نشر المؤرخ العربي أيضا نص المذكرة المرفقة بالرسالة والتي تتضمن المطالب العربية. وقد جاء في متن الرسالة ما يلي: laquo;.. يجب ألا تتعبوا أنفسكم بإرسال الطيارات أو رجال الحرب، لإلقاء المناشير وإذاعة الشائعات كما كنتم تفعلون من قبل لأن القضية قد تقررت الآن.
وإني لأرجوكم هنا أن تفسحوا المجال أمام الحكومة المصرية لترسل الهدايا المعروفة من الحنطة للأراضي المقدسة laquo;مكة والمدينةraquo; التي أوقف إرسالها منذ العام الماضي. وأود أن ألفت نظركم إلى أن إرسال هدايا هذا العام والعام الفائت سيكون له أثر فعال في توطيد مصالحنا المشتركة، وأعتبر أن هذا يكفي لإقناع رجل ذكي مثلكم أطال الله بقاءكم.
خلافة عربية
أما المذكرة المرفقة بالرسالة فقد اكتفى الكتاب الذي نناقشه بإشارات سريعة إلى المطالب العربية، ولكن المؤرخ أمين سعيد ينشر نصها الكامل الذي نكتفي باقتطاف أهم بنوده على النحو التالي:
أولا: نقترح أن تعترف انجلترا باستقلال البلاد العربية من مرسين ـ أضنة حتى الخليج العربي شمالا، ومن بلاد فارس حتى خليج البصرة شرقا، ومن المحيط الهندي للجزيرة جنوبا، يستثني من ذلك عدن التي تبقى كما هي ـ ومن البحر الأحمر والبحر المتوسط حتى سيناء غربا.على أن توافق انجلترا أيضا على إعلان خليفة عربي على المسلمين.
ثانيا: تعترف حكومة الشريف العربية بأفضلية انجلترا في كل مشروع اقتصادي في البلاد العربية إذا كانت شروط تلك المشاريع متساوية.
ثالثا: تتعاون الحكومتان الإنجليزية والعربية في مجابهة كل قوة تهاجم أحد الفريقين وذلك حفظا لاستقلال البلاد العربية وتأمينا لأفضلية انجلترا الاقتصادية فيها، على أن يكون هذا التعاون في كل شيء، في القوة العسكرية والبحرية والجوية.
وجاءت في نهاية المذكرة عبارة تحتاج إلى إيضاح وهي raquo;.. وفوق هذا فإننا نحن عائلة الشريف نعتبر أنفسنا ـ إذا لم يصل الجواب ـ أحرارا في القول والعمل من كل التصريحات والوعود السابقة التي قدمناها بواسطة علي أفندي؟!raquo;.
فمن هو علي أفندي هذا؟.. بعد البحث وجدنا أنه تاجر مصري اسمه علي أفندي أصغر يقيم في حي الجمالية ويرتبط بصلة نسب مع موظف في قسم ـ أو قلم ـ الترجمة في مقر المندوب السامي البريطاني، وهذا الموظف اسمه حسين روحي البهائي.
ويذكر المؤرخ أمين سعيد أن الإنجليز كانوا يعتمدون على عدد من البهائيين المستعربين في أنشطتهم السرية في الوطن العربي. وفي أواخر سبتمبر 1915 وصل علي أفندي إلى مكة حاملا إلى الشريف عبد الله ابن الحسين رسالة من رونالد ستورز السكرتير الشرقي لدى المندوب السامي البريطاني في مصر.
وعندما نعود مرة أخرى إلى رسالة الشريف حسين إلى ماكماهون نجد أن جيمس بار صاحب كتابنا الذي نناقشه يذكر أن ماكماهون تسلمها في شهر أغسطس وقرأها بحذر شديد ورفض أن يعتبر ما جاء بها من مطالب أمرا يستحق الاهتمام، ولكنه في نفس الوقت كان يخشى التسبب في شعور الشريف حسين بالإحباط، أو إلزام الحكومة البريطانية بأي تعهد، فقرر أن المماطلة هي أسلم الخيارات.
وكلف ستورز بإعداد رد يبلغ فيه الشريف حسين أن من السابق لأوانه جدا مناقشة أي اتفاق بشأن مستقبل منطقة، مازالت تحت السيطرة العثمانية. وحاول السكرتير الشرقي تعويض افتقار رد ماكماهون المتلكئ وغير المشجع باللجوء إلى افتتاح رسالة الرد بأسلوب مزدان بعبارات التفخيم .
وهكذا نجد في الترجمات والكتب الخاصة بالرسائل المتبادلة بين الشريف حسين ومكماهون ترجمة دقيقة لهذه الأوصاف التي جاءت في كتاب جيمس بار في إشارات عابرة لا تعطي المعنى المقصود بالضبط والمفهوم لدى العرب المسلمين. وقد ورد في المراجع التاريخية العربية نص الرسالة التي بدأها ستورز على الوجه التالي في لغتها العربية:
إلى الحسيب النسيب سلالة الأشراف وتاج الفخار، فرع الشجرة المحمدية والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع والمكانة السامية، السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل دولة الشريف حسين باشا، وسيد الجميع، أمير مكة المكرمة قبلة العالمين ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمت بركته الناس أجمعين.وإذا صح أن هذه السطور بعينها هي التي بدأت بها رسالة ماكماهون فلابد أن نستنتج أن من كتب هذه الديباجة لابد أن يكون عربيا يعمل لدى مكماهون أو ستورز.
ونحن نرى في كتاب جيمس بار قصورا في ذكر تفاصيل تلك الرسالة على أهميتها رغم ما تحتويه من مماطلة وتسويف أغضب الشريف حسين في رده عليها برغم الديباجة الفخمة التي تم بها افتتاح الرسالة وبالعودة إلى المجلد الأول من كتاب أمين سعيد نجد النص الكامل لها ثم للرد الذي بعث به الشريف حسين واسمح لنا ـ عزيزي القارئ ـ أن نجتزئ بعضا من الرسالتين، ففي الأولى يقول ماكماهون laquo;أود أن أؤكد لكم ما قاله اللورد كيتشنر في الرسالة التي وصلتكم بواسطة علي أفندي.
وهي الرسالة التي أوضح لكم فيها بصراحة رغبتنا في استقلال البلاد العربية وسكانها، وموافقتنا على أن يكون الخليفة عربيا عندما تعلن الخلافة، ونصرح مرة أخرى أن حكومة صاحب الجلالة تميل إلى أن يكون الخليفة عربيا عريق العروبةraquo; وكرر ماكماهون أن ما يتعلق بالحدود سابق لأوانه. أما رد الشريف حسين فقد جاء فيه قوله: laquo;ويعذرني فخامة المندوب إذا قلت بصراحة إن laquo;البرودةraquo; وlaquo;الترددraquo; اللذين ضمنهما كتابه.
فيما يتعلق بالحدود وقوله إن البحث في هذه الشؤون إنما هو مضيعة للوقت وأن تلك الأراضي لا تزال بيد الحكومة التي تحكمها، يعذرني فخامته إذا قلت إن هذا كله يدل على عدم الرضا أو على النفور أو على شيء من هذا القبيل، فإن هذه الحدود المطلوبة ليست لرجل واحد نتمكن من إرضائه ومفاوضته بعد الحرب، بل هي مطالب شعب يعتقد أن حياته في هذه الحدود، وهو متفق بأجمعه على هذا الاعتقاد مع الدولة التي يثقون بها كل الثقة ويعلقون عليها كل الآمال وهي بريطانيا العظمىraquo;.
عرض ومناقشة: صلاح عويس
التعليقات