الأثنين 19 فبراير 2007
خالد الحروب
أزمات ومشكلات الجاليات المسلمة في الغرب آيلة إلى التفاقم سنةً إثر سنة, ولا يبدو أن ثمة حلولاً في الأفق قد تحول دون تطور مسارات مؤسفة. أحد أهم الجذور النظرية لتلك الأزمات هو عدم الفهم العميق المنتشر في أوساط تلك الجاليات لمسائل الحقوق والهوية والحرية الفردية كما توفرها المجتمعات المضيفة. المجتمعات الغربية تقوم على قواعد ليبرالية في النظرة إلى تلك المسائل, وهذا يعني, من جملة ما يعنيه, إعلاء موقع الفرد والحرية الفردية مقابل الدولة وسلطتها. فالفرد هو quot;الأقنومquot; المؤسس للتشكيل المجتمعي, وحريته هي المقدسة, واختياراته السلوكية والفكرية والسياسية والدينية هي ما تجهد القوانين والتشريعات للحفاظ عليه. في المقابل تتحوصل الجاليات المسلمة على نفسها على قاعدة quot;حقوق الجماعةquot; وليس حقوق الفرد. فالمطالب والهموم والمشاعر وفهم هذه الجاليات لنفسها يقوم على قاعدة quot;جماعاتيةquot;. وهناك فهم نظري مغلوط داخل هذه الجاليات يقوم على إلزام المجتمعات الغربية المضيفة باحترام حقوق الجالية كـquot;جماعةquot; وليس كمجموعة من الأفراد المستقلين. وبشكل أكثر توضيحاً، فإن المنطق الليبرالي الذي يقوم عليه المجتمع الغربي, نظرياً على الأقل, يدافع بوضوح وقوة أخلاقية وقانونية عن حرية الفرد المسلم (وأي فرد آخر بالطبع) في أن يمارس شعائره الدينية, وأن يوفر له الأسباب التي تتيح له تلك الممارسة من دون خوف أو تمييز. لكن هذا المنطق لا ينطبق بنفس الوضوح والقوة عند تطبيقه على quot;جماعة الجالية المسلمةquot;, فهذا المنطق وبالتعريف يريد تعزيز قوة الأفراد إزاء الدولة وإزاء الجماعات والولاءات الجماعية. لكن إذا كان الفرد نفسه يعتقد أن جزءاً من حريته الدينية والاعتقادية الفردية يتضمن الانتماء إلى جماعة ما, وإلى المسجد مثلاً, وإقامة طقوس وعلاقات جماعية, فما هو الحل الليبرالي الغربي في هذه الحالة؟ هنا يرتبك الجواب ويتفرع بحسب المجتمع المضيف نفسه. وعملياً وللإيجاز فإن المجتمعات المضيفة تبنت واحداً من خيارين, مع تنويعات مختلفة بينهما. الأول هو خيار التعددية الثقافية (كما في بريطانيا وهولندا مثلاً), حيث منحت الجماعات الإثنية والدينية حقوقاً تكاد تماثل حقوق الأفراد, وتم التعامل معها ومع مطالبها الهوياتية بحساسية كبيرة. وعلى هذه القاعدة واستثماراً لأفق الحرية العريض، انتشرت المساجد والجمعيات الخيرية وهيئات إسلامية عديدة ثقافية وسياسية وسواها لا يمكن أن نراها في غالبية الدول العربية والإسلامية. الخيار الثاني هو تطبيق مبدأ الاندماج, كما في فرنسا على وجه التحديد, حيث تمترست الدولة بالمنطق الليبرالي الأولي وهو التعامل مع الأفراد بكونهم أفراداً, وليس أعضاء في جماعة أوسع. وعلى اعتبار أن جماعتهم الأوسع هي المجتمع الفرنسي نفسه. لكل واحد من هذين الخيارين إيجابياته وسلبياته, وهذا حديث آخر, لكن هنا نبقى في إطار ما يحدث في داخل الجاليات العربية والمسلمة.
حقوق الفرد وحريته وخياراته في نطاق هذه الجاليات، تعاني من نظم السيطرة والثقافة الأبوية رغم أن هذا الفرد يعيش في مجتمع أوروبي. أي أن الفرد المنخرط في جاليته (شبه المنعزلة عن المجتمع الواسع) يشعر وكأنه يعيش في مجمتعه الأصلي بأعرافه وضغوطاته وإكراهاته, إلى جانب ما يشعر به من دفء وانتماء وجو تعاوني توفره له تلك الجالية. باختصار: الفرد العربي أو المسلم يشعر بفضاء حرية أوسع ولائحة حقوق أكثر تقديراً لحريته في المجتمع المضيف عما يشعر به داخل جاليته. لكنه يشعر باغتراب أكثر وتمزق في الولاء والهوية عندما ينخرط أكثر في المجتمع المضيف, فيُبقى قدماً له في فضاء جاليته, وقدماً آخر في المجتمع المضيف. أو يتوصل كل فرد إلى معادلته الخاصة في حل التناقض العميق بين الانتماءين.
المسألة الأخرى التي تعاني من عدم فهم عميق في وسط الجاليات العربية والمسلمة وتؤثر بالتالي على علاقتها مع المجتمع المحيط هي مسألة الهوية. الهوية والانتماء والتشبث بكل ما من شأنه أن يؤكد التمايز والاختلاف عن المحيط والحرص على عدم الذوبان في المجتمع الغربي يصل في كثير من الأحيان إلى عرض مرضي. كثير من أفراد وجماعات الجاليات العربية والمسلمة يسكنهم هاجس أقرب إلى الهلع والرعب إزاء المجتمع الغربي الذي يعيشون فيه, ويدفعهم للانعزال التام وتشكيل quot;غيتوquot; خاص بهم, بما يفرض السؤال الثقيل عن سبب إقامتهم في هذا المجتمع وتحمل كل تلك المعاناة أساساً. لكن ما هو أهم من ذلك من ناحية نظرية هو أن مسألة الهوية والانتماء والهوس بهما هي مسألة ثقافية دينية تواجه المجتمعات والمجتمعات المنشقة على نفسها والتي تواجه أزمات من طبيعة خاصة وفي مرحلة تاريخية معينة, وينطبق ذلك على مجتمعات العرب والمسلمين وكثير من مجتمعات العالم النامي, لكنه لا ينطبق على المجتمعات الغربية. في أكثر المجتمعات الغربية لا تشكل مسألة الهوية والانتماء مسألة ملحة على المستوى الفردي أو الجماعي, بل إن المنطق الليبرالي الغربي يعتبر أن من الإنجازات المجتمعية الكبرى التي حققها هو تخفيض مستوى الهوس بالهوية إلى الحد الأدنى, مقابل رفع مستوى الحقوق الفردية والحرية الفردية إلى الحد الأعلى. وبمعنى ما، فإن المجتمعات الغربية تعرف من قبل كثير من الليبراليين بأنها, نظرياً, مجتمعات لا هوية لها أو هكذا يجب أن تكون, وهذا هو منبع قوتها. ورغم أن هذا ليس متحققاً بالمعنى الليبرالي الكامل, فإنه من الصحيح أن الهوس بالهوية لا نراه يلاحق كل فرد غربي كما هو حال الفرد العربي والمسلم سواء الذي يعيش في الغرب أم خارجه. على ذلك فإن تعبيرات الهوية والثقافة والدين, سواء في الشكل العام, أو اللباس, أو الطقس الديني, أو مظهر التجمع, أو طبيعة السلوك, أو الاستثناءات الدائمة سواء في بيئة العمل أو الدراسة أو سواهما على أسس quot;هوياتيةquot; كل ذلك لا يساعد إلا في إثارة المجتمع الأعرض ضد هذه الجاليات واعتبارها غير منسجمة مع محيطها.
ورغم تغير الوضع الدولي العام ومعاناة الجاليات المسلمة في الغرب من ارتدادات ما يحدث في العالم العربي والإسلامي, خاصة العراق, وفلسطين, وأفغانستان, وفي ضوء سياسات غربية (أميركية وبريطانية تحديداً) بائسة ومتوحشة في الحالات المذكورة, فإن الجاليات المسلمة وقادتها لم يستوعبوا كثيراً من الدروس. فإضافة إلى الزيادة الكبيرة في أعداد هذه الجاليات إما بسبب تضاعف معدلات الهجرة إلى البلدان الغربية (الشرعية وغير الشرعية), أو الزيادة الطبيعية, وما يثيره ذلك من تخوفات في أوساط المجتمعات المضيفة, فإن مواقف الجاليات وخاصة قياداتها الحزبية الإسلامية إزاء العديد من القضايا لم تخدم هذه الجاليات. فعلى سبيل المثال هناك تلكؤ في تكريس إدانة جماعية وثقافية ودينية للإرهاب الذي ينفذ باسم الدين وينسب للإسلام والمسلمين, وهذا بالطبع يزيد من اغتراب الجاليات المسلمة في الأوساط الغربية, وبحيث يُصار لأن ينظر إليها على أنها quot;طابور خامسquot;.
التعليقات