خيري منصور


قدرها الجغرافي جعل من فلوريدا الأمريكية قبالتها تهديداً لبعض الوقت وملاذاً لقليل من الوقت، وفيدل كاسترو الذي ضرب مثلاً في الذهاب الى أقصى الراديكالية وهو الماركسي العنيد تخرّج في مدارس الجينرويت المسيحية، ووزير دفاعها وهو أقدم وزير دفاع في هذا العالم، لم يشتبك مع شقيقه ولم يتطلع الى السلطة قبل أن توكل إليه بعد مرض فيدل، وفلول حقبة باتيستا ممن استوطنوا الولايات المتحدة، أصبحوا وزراء، وجنرالات ودبلوماسيين في الولايات المتحدة، ومنهم من اعترف رغم إدانته للنظام الشمولي في هافانا بأنه ينتسب الى عائلة من تلك النخبة الفاسدة التي طفت على السطح في عهد باتيستا وقبل الثورة الكوبية الرئيس الذي حكم بلاده لأطول فترة في عصرنا قاوم المرض، وكابر وهو يخطب كعادته واقفاً تحت الشمس والرطوبة الى أن سقط ذات ظهيرة كجواد أصابه الإعياء لفرط ما ركض وصهل.

حسب الإحصاءات المحايدة، فإن كوبا لا تشكو من البطالة بالمعنى الكلاسيكي لهذه المفردة، كما أن نسبة الأمية فيها هي الأقل، لكن حسب إحصاءات غير محايدة فإن منسوب الحرية يتراجع، والجزيرة توغل في الانكفاء على نفسها في زمني الانفتاح والتمدد.

إن مرض فيدل الذي اكتنفه الغموض كما يحدث عادة لزعماء حكموا بلادهم فردياً ولزمن طويل هو المعادل العضوي لمرض آخر يتسلل الى الدورة الدموية لكوبا برمتها.

والآن، بعد أن أصبحت واشنطن متأكدة من أن فيدل قد بلغ خريفه، فهي تتلمظ ويسيل لعابها على الشاطئ المقابل، فالعولمة وبمعنى أدق الأمركة يجب ألا ينجو منها أحد، خصوصاً إذا كان من أهل القارة الجنوبية التي تراها أمريكا من ضواحيها، أو هي كالأبناء الضالين الذين لا بد من عودتهم الى البيت.

المسؤولون الأمريكيون يكررون صباح مساء أنهم لن يلجأوا الى أي تدخل عسكري في كوبا، وكالعادة، يكررون مقولة أصبحت جوفاء وفاقدة للصلاحية، وهي أن الشعب الكوبي سيتولى أمر التغيير والتطوير، وبالتالي الخروج عن بيت الطاعة لعائلة كاسترو.

بالطبع لن تصبح كوبا أرملة بعد رحيل فيدل، لكن الفراق سيكون أكثر تعقيداً مما تصوره التقارير الأمريكية، وما يتمناه الكوبيون الذين غادروا بلادهم قبل أربعة عقود أو أكثر.

لقد قال كاسترو ذات حوار مع جان بول سارتر ورفيقته بوفوار في كتاب (عاصفة على العصر) إن السُّكّر في بلاده بالغ المرارة في الحلق. وأضاف ان المنكوبين بالثروات التي تجتذب الغزاة يعرفون أكثر من سواهم أن النعمة قد تتحول الى نقمة، لكن الرجل الذي جسّد أمثولة الازدواج واصل الرحلة، رغم تعرضه لأكثر من مائتي محاولة اغتيال، وكان يعتقد أن هذه المحاولات تستهدف كوبا وتجربتها وسيادتها أكثر مما تستهدف شخصه.

إن الشَّخصنة في نظام اقترن بزعيم واحد لعقود عدة ما من سبيل للدفاع عنها أو دمجها بالقضية الوطنية العامة، من دون أن تظهر خطوط هنا أو هناك. ولأن الخلود ليس من نصيب أحد من البشر بمن فيهم الزعماء، فإن هذه اللحظة العصيبة التي تتهيأ كوبا لمواجهتها كان يجب أن تأزف قبل موعدها، لأن الصياد الأمريكي الواقف بعدد من الشباك والأفخاخ على الشاطئ المقابل لم يبق له من رجاء في أن يملأ شباكه غير رحيل فيدل.

والرهان الآن، هو على الغياب، خصوصاً بعدما ظهرت تصريحات لراؤول شقيق فيدل وأقدم وزراء الدفاع في العالم حول الإصلاحات.. لكن أية إصلاحات؟ إن للولايات المتحدة تعريفاتها الخاصة للديمقراطية والحرية والإصلاح، لهذا فهي أصبحت بالنسبة لكوبا أشبه بتلك الخنفساء الأسترالية التي تحمل بيضها على ظهرها وتنتظر الفريسة التي تحتضر في الجُحر المجاور.