جابر حبيب جابر
الراصد للتحليلات المفسرة لمشكلات عراق ما بعد التغيير يلحظ أنها تنتظم حول مقولة واحدة أو أس واحد لمشاكل يكاد يتم الإجماع عليه، وهو أن سبب التردي والضعف والاحتقان والانسداد السياسي والذي انسحب بتداعياته على الجوانب الأمنية والحياتية والخدمية، يعود الى المحاصصة الطائفية، وهنا أرجو أن لا تذهب بتفاؤلك بعيدا وتظن بأن هذا يبشر بمغادرة للنمط التقليدي في التفكير العربي الذي أدمن القاء المسؤولية على الآخر الأجنبي وبداية لمنهج نقد النفس بالتفتيش عن أخطائها وعن الاختلالات فيها بدل تحميل الآخر وزرها، إذ سرعان ما تقرن المحاصصة الطائفية بالأمريكان كونهم من أوجدها وكرسها من خلال تركيبة مجلس الحكم الذي قام وفقا لها بعد التغيير!
ناهيك من الخلل التأريخي البين في هذه الرؤية كوننا عرفنا المذاهب والملل والنحل واصطراعاتها بأثني عشر قرنا قبل أن تظهر الولايات المتحدة، وانه في الوقت الذي نجح فيه الآخرون في تقنين وتأطير ومأسسة صراعاتهم سلمياً عبر الآليات الديمقراطية، فإننا لسنا فقط لم نوفق في ذلك على مر تاريخنا، بل جلبناها الى حلبة الديمقراطية، خالقين وضعاً مهجناً تلتقي فيه نزعات وانتماءات ما قبل الدولة مع ما بعدها، كما أن هذه الرؤية تتناسى معادلة الحكم المختلة التي عرفها العراق الحديث وسادت فيه منذ تأسيسه في عشرينات القرن الماضي الى نيسان 2003 والتي لا أحد يدعي أن للأمريكان دخلاً بها، وأن مجلس الحكم الذي أتى بعد ذلك واعتبر بأنه كرس الطائفية، كان الأكثر تنوعا من بين المجالس اللاحقة، بل ان نسبة العلمانيين، الذين يفترض نظريا أنهم الأبعد عن الطائفية، في هذا المجلس لم يحظ بها أي مجلس منتخب لاحق، ثم إذا كان الأمريكان أوجدوا ذلك، فلماذا لم تتحرر الانتخابات التي أجريت لمرتين بعد انتهاء مجلس الحكم من الاصطفافات الطائفية؟ أم أن أحدا يزعم أن الأمريكان لقنوا أو أجبروا اثني عشر مليون ناخب أن يكون تصويتهم الانتخابي طائفيا؟!
لقد بات اعتبار أزمة النظام السياسي بأنها تعود وفقط للمحاصصة الطائفية أشبه بالبديهي، حتى يخال المتلقي لها بأن نظام التمثيل البرلماني عندنا يقوم على أسس طائفية بحتة وكأنه يعتمد التوزيع المسبق للمقاعد البرلمانية على الطوائف، وليس هو نتاج انتخابات تخوضها مجموعات حديثة متمثلة بالأحزاب والتجمعات.
وهذه الرؤية تستبطن تعمية، وتختزن قدرا كبيرا من التضليل الذي نجحت في إشاعته وبات البعض يتلقاه كمسلمات، إذ خطورتها أنها تتجنب نقد المشكلة الأساسية وهي مشكلة العنف، وتسعى لتغيير الاتجاه عنها وتشتت التركيز عليها، وبذلك تستهدف النقد والتيئيس من العملية السياسية والقائمين عليها بدل نقد جماعات العنف المعيقة لها، في حين أن أي تحليل وتقييم موضوعي يصل الى ان المحفز والباعث على الاصطفافات الطائفية أمس واليوم هو العنف، إذ هي ابتدأت نتيجة مخاوف مختزنة في الذاكرة الجمعية كرستها عقود طويلة من الإقصاء والظلم، ثم جاءت موجة العنف وكرستها، فالتصويت الطائفي هو في حقيقته تصويت خائف مذعور لائذ بالمكون ناشداً فيه الحماية في مواجهة الآخر المستهدف أصل وجوده.
لذا أكاد أجزم وبسبب من استمرار هيمنة العنف بأنه لو اعيدت الانتخابات اليوم لما خرجت بنفس الاصطفافات، لذا فعلى منتقدي المحاصصة الطائفية، وان يلحظ أنهم لم يقدموا أي خروج عنها، اذ رغم حديثهم اليومي عن المشروع الوطني فان لا أحدا منهم باستثناء القائمة العراقية ذات الأساس العلماني، ضم في قائمته الانتخابية مرشحاً واحداً من غير طائفته، بل باتوا يقتتلون على المحاصصة الطائفية ولكنهم ولدوا لها تسميات اخرى كالاستحقاق الوطني بدل الانتخابي، والتوازن بدل المحاصصة، فعليهم اذا صدقت نواياهم في التخلص من المحاصصة الطائفية ان يكسروا ويوقفوا دورة العنف، اذ انه بهذا وحده سيتحول العراقي من كائن طائفي الى كائن سياسي يختار وفقاً لمصالحه وليس وفقا لمخاوفه. والدليل الآخر انه رغم الحراك السياسي الأخير الذي شهده المشهد السياسي والانشقاقات، فان من غير المرجح رؤية تكتلات عابرة للطوائف، اذ لا احد يجازف بذلك من دون ان يستعدي قاعدته بسبب من الشرخ العميق والدموي الذي كرسه ويكرسه العنف يومياً.
حتى لو اعتبرنا أن المحاصصة الطائفية آفة أو انها في هذه المرحلة قدر لا فكاك منه، فهل يعقل أن المكونات الرئيسية في العراق، والتي اقلها بحجم دولة عربية متوسطة السكان كالأردن او لبنان، لا تستطيع ان تقدم من بين أبنائها بضع عشرات من الكفوئين للتصدي لإدارة مفاصل الدولة السياسية والادارية؟ أم هي المحاصصة السياسية الموظفة للطائفة لمصلحتها والمختزلة لحقوقها والمستثمرة لمخاوفها والتي لا ترى ابعد من دائرة مريديها والبانية لزعاماتها على دوام معاناة مكوناتها؟ وإلا هل بغير ذلك نفسر العجز عن الوصول الى ايجاد فضاءات التعايش مع باقي شركاء الوطن؟ بل حتى الفشل في المستوى الأدنى من ذلك في ايجادها بين ابناء الطائفة الواحدة، والذي يدلل عليه بوضوح الصراعات التي تبلغ الدموية غالباً في محافظات جل، بل أحيانا كل، سكانها من طائفة واحدة؟ في هذا التردي تتساوى المحافظات السنية والشيعية، بل ان الشيعية يوجه اللوم اليها بشكل اكبر، ويحار المرء أمام ما يجري فيها كونها لا تشكو مثل المحافظات السنية من استباحة الإرهاب لها.
الا ان الحراك السياسي الأخير بخروج التيار الصدري من الحكومة والذي سبقه خروج الفضيلة من كتلة الائتلاف الحاكم، على الرغم من أني لا أرى فيه بوادر انشقاقات خطيرة أو تهشما للكتل والتحالفات بما يغير المعادلة القائمة او ينذر بخطر على مستقبل الحكومة كون، مرة ثانية، واقع العنف يوفر الإسمنت اللاصق لهذه الكتل بما يحميها من التفكك، لكن هذا لا يمنع على اضعف الفروض من اقامة تحالفات فوقية بين القوى السياسية تتجاوز التخندقات الراهنة بغية الخروج بمشروع وطني والذي بات يشكل مطلباً، بل استحقاقاً، تلح عليه الأطراف الخارجية والداخلية وقبلهم الممتحن والمبتلى المواطن العراقي، اصطفافاً جديداً يكون على أساس من يؤمن بالسلم مقابل من يؤمن بالعنف، من يتخذ السياسة وسيلة ضد من يتخذ الإرهاب منهجا، من يقف مع القانون بالضد ممن يخرقه، من يبني العراق في مواجهة الساعين لتقويضه.... عند ذاك فقط نضع القدم على طريق مغادرة المحاصصة الطائفية.
التعليقات