أحمد العرفج


إذ قُدِّر لك أن تزور بريدة، من ناحية ريفها الغربي، ستلمح عيناك بيتًا طينيًّا، خاليًا من كلِّ ما يمسُّ بناء القرن العشرين من أسلاك كهرباء أو خطوط هاتف أو صنبور مياه! ذلكم هو منزل الشّيخ عبدالكريم بن صالح الحميد، الشّيخ الزّاهد التّقي، التّارك لكلّ مُتع الحياة الدّنيا وفق قناعة راسخة عنده بأنّ الزُّهد أقرب الطُّرق إلى دخول الجنّة!
والشّيخ الحميد يعتبر الكهرباء والسّيارات والأجهزة الإلكترونيّة خوارق شيطانيّة، وخيالات تدور حولنا دون شعور منا! وقد وصف كلّ ما يمسّ quot;معطيات الزّمن الحديثquot; من صعود للفضاء، والقنبلة الذّريّة وغيرهما في كتابه: quot;العلوم العصريّة والآلات السّحريّةquot;، مقرِّرًا بأنّها (ليست أكثر من خوارق شيطانيّة)!

والشّيخ عبدالكريم الحميد لم يكن وليد عصره، بل كان تلميذًا نجيبًا لشّيخ الزّهد في بريدة الشّيخ فهد العبيد، الذي أخذ عنه الأوّل طريقته وأسلوبه وفكره، ولكن حدث بين الرّجلين ما يثير الخلاف ويزرع الاختلاف، وهو القول quot;بكرويّة الأرضquot;، حيث يرى العبيد أنّها ليست كذلك، في حين يرى الحميد أنّها كرويّة استنادًا إلى ما يروى عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بأنّ الله خلق الأرض كرويّة الشّكل، وإجماع المسلمين على ذلك، ولكنّ الشّيخ العبيد يرى أنّ القول بهذا الرّأي هو بدعة محدثة في الإسلام، واصفًا ما رُوي عن ابن تيمية وابن القيم في هذا الشّأن ليس لا يعدو أن يكون كلامًا مدسوسًا عليها، وهما منزّهان عنه كتنزيه الذّئب من دم يوسف عليه السَّلام.

يصف الشَّيخ الحميد هذا الزَّمن بأنه quot;زمن إبليسquot;، ويرى أنّ زمن خروج الدّجال قد اقترب، لذا كان هو وطائفة من الذين قبله من طلبة العلم والمشايخ من أمثال فهد العبيد ومحمّد المطوّع وإبراهيم العبيد لا يحبّذون استخدام الكهرباء، وإن استخدموها فهو استخدام الخائف، الشّاعر بالذّنب والمعصية! وقصّة الكهرباء ومشتقاتها مع بعض أهالي بريدة لها حكايات تروى وقصص تحكى!
لن يهمّني هنا quot;نبشquot; بدايات الشَّيخ وشبابه الذي أنفقه في أرامكو بوصفه مترجمًا، ليعود بعدها زاهدًا واعظًا.. لم يهمّني ذلك فهي مرحلة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ناهيك عن quot;كثرة اللّغطquot; الذي يدور حولها، فمن الصّحفيين من قال إنّ الشّيخ سافر إلى أمريكا، ومنهم من قال إنّه ذهب إلى الشّام.. ومنهم ومنهم، وقد أكدّ لي الشّيخ في إحدى زياراتي له بأنّه لم يسافر أبداً، بل لم يحصل على جواز قائلا: (قلم الجوازات يفصل بيننا فيما كنّا فيه مختلفين)!

وينحدر الشّيخ الحميد من بيوتات بريدة التي توصف بالنّعمة وبحبوحة العيش، لذا لم يكن زهد الشّيخ مكرهًا عليه من باب الفقر والإملاق، ولم يكن كذلك صيامًا اضطراريًّا على خلفيّة الجوع الإجباري، بل هو زاهد عميق التّطبيق، قويّ المضمون، تتزحزح الجبال الشُّمّ ولا يتزحزح!

ولو فتّشت في جيوب شيخنا فلن تجد أيّ بطاقة شخصيّة، أو أوراق نقديّة، فهو يرى أنّ كلَّ هذه الصُّور حرام، وكم كان يرجو منّا حين الدّخول عليه أو الجلوس معه بنبذ ما في جيوبنا من هذه الأشياء ووضعها في مكان قصيّ عنه وعن داره التي يرغب أن تدخلها الملائكة، بوصفها لا تدخل منزلاً فيه صور أو رسومات!
وطريقة حياة الشّيخ عبدالكريم برّاقة جذّابة، فهي بدائيّة بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنى، حيث البيت من الطِّين القديم، يجوس فيه الخيل التي quot;معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامةquot;، يحوط ذلك كلّه الهدوء الذي لا يلوّثه أزيز السّيارات، أو صرير المكيّفات، أو صفير المراوح، وتزور المصابيح!

إنّها مناجاة بين رجل وصحرائه التي تلمسها عندما تزوره، وكلّ مرّة أزوره فيها أتعهّد نفسي بإتّباع طريقته، وعندما أبدأ أوّل خطواتها أشعر بالمعاناة، ثمّ ألوذ إلى سيارتي وكهربائي وسراجي المنير. ولله درّ هذا الشّيخ الذي صبر على حياة يعجز عنها quot;كلّ البشرquot;، وإن كان زهده يمثّل وجهة نظره في الحياة، فإنّ هذا الزّهد برّاق أخّاذ، إذ كيف يترك المرء الدّنيا وزينتها، وقد سال لعاب من قبله ومن بعده عليها.

كلّ هذا الزّهد جعل الشّيخ الحميد محطّ أنظار الصّحفيين والكُتّاب والباحثين عن الأشياء الغربية!

وشيخنا الزّاهد عبدالكريم الحميد لا يصلّي إلا في مسجده الطِّيني، الذي هُدم قبل سنتين، وفي زيارتي الأخيرة له حضرتنا صلاة المغرب، فعمدنا إلى استراحة بجوار داره، ليس فيها من أسلاك الكهرباء ما يجرح شعور شيخنا، ليؤمّنا أنا وتلميذه الوفي أبو أيوب السّويد، الذي نذر نفسه ndash; كمئات غيره - لخدمة الشّيخ الزّاهد!
وما شدّ القلم إلى الشّيخ عبدالكريم هو حالة الزّهد التي تغشاه، وقلّة أذاه، إذ انطلق إلى الزّهد، وعاش فيه معتزلاً النّاس وما يعبدون إلا الله، في حين أنّ أقرانه وبعض أصحابه الذين كانوا زُهّادًا معه، انقلبوا على أعقابهم وأخذوا يثرثرون في كلّ وسائل الإعلام، بعد أن كانوا يحرّمون استخدامها أو شراءها!

كلّ هذه الأفعال التي أخذ يمارسها أقران الشّيخ جعلت شيخنا يزداد تمسُّكًا بأسلوبه وطريقته، سائلاً الله الثّبات بعد أن ضلَّ كثير من النّاس، الذين كان الشَّيخ يراهم في منتهى الزُّهد وإذا بهم يخرجون في كلّ حدب إعلامي وصوب صحفي مرشدين النّاس وقائلين لهم (إنّ الحياة ليست أكثر من كلمة)!

والشّيخ عبدالكريم الآن ليس أكثر من طالب علم زاهد، لا يستقبل أحدًا إلا بإلحاح، وإن استقبل فإنّ الشّيخ لا يتأخّر عن عتاب المقصّر متى ظهر منه أثر معصية، أو ارتكاب خطيئة، من مثل إزالة لحية، أو إطالة ثوب، أو الانتساب إلى عمل حكومي، أو الالتحاق بأيّ مدرسة نظاميّة.

بدأت معرفتي بالشّيخ عبدالكريم الحميد عام 1406هـ، عندما زرته أوّل مرّة وقعت على أذني كلمة quot;المباهلةquot;، تلك كانت المرة الأولى التي اسمع فيها هذا المصطلح الذي لا يغادر ذهن الشّيخ، فكلّ زائر له لن يحرم سماع هذه المفردة، وهي مصطلح شرعي يحلّ نزاع المخالفين، بحيث يدعو كلّ واحد منهم على صاحبه بالهلاك إذا كان من الكاذبين أو المدلّسين!!
والشّيخ أسعد ما يكون إذا مرض، لأنّ المرض في نظره يعني الابتعاد عن الحياة الدّنيا، والاقتراب من الآخرة التي تعني للشّيخ quot;رياض الصّالحينquot;.

في زيارتي الأولى للشّيخ كنت طالباً في الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة، وكان أثر إزالة اللحية ظاهر على الوجه، فما كان من الشيخ الزّاهد إلا أن منحني إنذارًا مسيّجًا بين خيارين إمّا أن أترك الجامعة وأعفي quot;اللّحيةquot;، أو أغرب عن وجه الشّيخ.

في تلك السّنة، كان الدّاعية سلمان العودة قد ألّف كتابًا بعنوان quot;المسلمون بين التّشديد والتّيسيرquot;، غمز فيه ولمز بعض طلبة العلم الذين يحرّمون الكهرباء، وركوب السّيارة، وكافّة الآلات الحديثة، ولم تكن فطنة الشّيخ عبدالكريم الحميد لتحرمه فهم أنّه المَعْنِي بهذا الغمز واللّمز، فكتب قصيدته quot;النّونيّةquot; المشهورة في الرَّدِّ على الدّاعية العودة، وقد كنت أوّل من حصل على صورة من هذه القصيدة التي يقول في مطلعها:

يَا مَنْ أتَى بِالإفْكِ والبُهْتَانِ
وسَعَى بِسَعْيٍ ظَاهِرِ الخُسْرَانِ

ثمّ كتب كتابًا اسمه quot;الرَّدُّ الشّهير على صاحب النَّكيرquot;!

وكتب الشّيخ التي يدور في فلكها ويوصي مريديه بقراءتها هي كتب الزّهد، وهجر الدّنيا مثل كتاب quot;طريق الهجرتينquot;، و quot;الجواب الكافيquot;، و quot;روضة المحبّينquot; لابن القيم، إضافة إلى كتاب quot;ذمّ الهوىquot; لابن الجوزي، وكتاب quot;استنشاق نسيم الأُنس من صفحات رياض القدسquot; لابن رجب.

قد يستغرب كثير من القراء وروّاد الثّقافة بأنّهم لا يعرفون الشّيخ عبدالكريم الحميد، رغم أنّ الشّيخ له أكثر من 120 كتابًا، طُبع منها قرابة الثّمانين، والشّيخ مولع بالسّجع اقتداءً بالسّلف الصّالح في تصنيفاتهم، وإتّباعًا لسنّتهم الثّقافية، واقتفاء أثرهم حتّى في quot;التّسمياتquot;، ومن كتبه: quot;إنارة الدّرب لما تفسير سيد قطب من آثار الغربquot;، وكتاب quot;إعانة المتعالي لردِّ كيد الغزاليquot;، وكتاب quot;إشعار الحريص على عدم جواز التّقصيص من اللّحية لمخالفة التّنصيصquot;.

وكتاب quot;جالب السُّرور لربّات الخدورquot;، وكتاب quot;تأخير نصر الدّين لطف بالمؤمنين ومكر بالكافرين والمنافقينquot;، وكتاب quot;بيان العالم الأصيل والمزاحم الدّخيلquot;، وكتاب quot;إقامة الحجّة والبرهان على من زعم أنّ الله في كلِّ مكانquot;، وكتاب quot;الحقّ الدّامغ للدّعاوي في دحض مزاعم القرضاويquot;، وكتاب quot;الكافي في التّحذير من مُضلات القوافيquot;، وهو رد على أبيات شركيّة للشّاعر أحمد شوقي، وكتاب quot;الشّناعة على من ردّ أحاديث الشّفاعةquot; وهو ردّ على مصطفى محمود في إنكاره أحاديث الشّفاعة وتخبّطه فيها، وكتاب quot;هداية الحيران في مسألة الدّورانquot; وهو كتاب يوضّح بالأدلة العقليّة والنّقليّة بطلان نظريّة الدّوران، وكتاب quot;وحدة الوجود العصريّةquot; وهو كتاب يوضّح بالأدلة العقليّة والنّقليّة بطلان نظريّة دارون القاضية بأنّ أصل الإنسان قرد، وفيه أيضًا ردّ على كتاب quot;الإنسان بين المادِّية والإسلامquot; لمحمد قطب.

والشيخ عبدالكريم الحميد، برغم زهده كما أرى ورغم تطرفه وغلوه وتشديده، كما يرى الآخرون، يعتبر نفسه رجلا معتدلا بدليل انه ألف كتابا اسمه quot;الوعيد على أهل الغلو والتشديدquot; يوضح فيه فوائد وقواعد مهمة في معنى الغلو والتشديد والتحذير من ذلك.

والشيخ في منهجه لا يبادر بالتأليف بل يعيش ردة الفعل فكل مؤلفاته تقريبا هي ردود ومناقشات وتصحيح ومناورات يحاول فيها الشيخ أن تقول وجهة نظرة وفق quot;حدود علمهquot; وquot;فهمه للنصquot; وتحكيم quot;تقاليده المعرفيةquot; لقياس محدثات هذا الزمان.

ومصادر علم الشّيخ ليست أكثر من كتب الزّهد والوعّاظ وبسطاء المعرفة الرّافضين، بل المحقّرين لشأن الدُّنيا، الرّافعين لشأن الآخرة، وأكثر ما يجذبه في الفكر ابن تيميه وتلميذه ابن القيم. أمّا إحالاته فهو يحيل إلى مصادر غير موثوقة مثل quot;الشّيخ موسىquot;، أو مثل قوله: (يقول الشيخ موسى الحجاوي في شرح الآداب، وجدت في ظهر ورقة في كتاب أبيات.. إلخ)، وغير ذلك كثير، ومن إحالاته أيضًا: (قال بعض العارفين)، و(قال بعضهم)، و(قال أحدهم)، ولا يعلم إلا الله من هم هؤلاء quot;العارفونquot; أو quot;البعضهمquot; أو quot;الأحدهمquot;.. الذين يحيلنا إليهم الشّيخ، كما إنّه لا يهتم كثيراً بتخريج الأحاديث فهو يأتي بالصّحيح والضّعيف والمتوسط وما بينهما من هذا وذاك!

وللأمانة فإنّ كتب الشّيخ الزّاهد الحميد الأخيرة التي طُبعت في الفترة من عام 1426هـ قد أخذت تلبس زينتها العلمّية، وزخرفها التّنظيمي بحيث يوجد فهارس، وتخريجات، ومراجع، وأرقام صفحات، وحواشي، وهوامش.

والعجيب في هذا الشّيخ أنّ حوله خلّة من رجال يحبّونه، ويفنون أوقاتهم في خدمته، فهو لا يخرج من منزله، ولا يملك من حطام الدُّنيا شيئًا غير ما يسدُّ رمقه ورمق أولاده، إلا أنّ تلاميذه، وهم على مستوى من النّجابة والفطنة، يحمون كتبه، ويسعون بالحصول على ترخيص لطباعتها عند quot;قسم المطبوعاتquot;، ثمّ يهرعون إلى التّجّار فيجمعون تكاليف الطِّباعة، ثمّ يوزعونها على المكتبات ونقاط البيع، فسبحان من سخّر لهذا الشّيخ الرِّجال والأموال والتّوفيق والإقبال!!

والشيخ الحميد مادّة صحفيّة جذّابة، غير أنّ الصّحافة تظلمه كثيرًا، بل وتعتدي عليه، وما أكثر ما احتسب عند الله بعض ما يكتبه الصّحفيون عنه!
وفي زيارتي الأخيرة للشّيخ قبل بضعة أشهر عاتبني عتابًا أحرش على طول الثَّوب، وأنذرني بأنّ الزِّيادة المقبلة ستكون مصحوبة بالمقصّ في حال استمرّ الثّوب طويلاً، بمعنى أنّ الشيخ قد انتقل من مرحلة تغيير quot;المنكرquot; بلسانه، إلى تغييره بيده!

والشّيخ الحميد لا ينافح عن الإسلام بنثره فقط، بل بشعره أيضًا، ولا زلت أحتفظ له بقصائد في الرَّدِّ على سلمان العودة والدكتور إبراهيم العواجي وقناة المجد، وغيرهم من الذين رأى الشّيخ أنّهم يستحقّون الرَّدَّ.

وأغلب الأشياء التي يردُّ عليها الشّيخ تقع في يده مصادفة، أو ينقلها له أحد الزّائرين، أو يجمعها له بعض أصحابها، أو يلاقيها هو يسير في قريته، خاصّة وأنّه لا يركب السّيارة مطلقًا، بل يحتقرها. وأتذكّر إنّني ذهبت معه مرّة للصّلاة في إحدى الاستراحات، وعندما هممنا بعبور الشّارع توقّفتُ حتّى تعبر إحدى السّيارات فنهرني قائلاً: (يجب أن تقف السيارة لنا، فنحن خلق الله، وهي من خلق إبليس)!
ولم تخل زيارتي الأخيرة للشّيخ من عتابه حول دراستي في بريطانيا، وأكّد أنّ خوفه عليَّ نابع من خشيته أن ألعنه يوم القيامة كونه لم ينصحني ويحثّني على ترك الدّنيا والأعراض عنها!
ثمّ أهداني آخر كتبه وهي مذكّرة بعنوان quot;جلاء حقيقة الدّين وعزّة المتديّنين وبيان خِلال سُنن المغضوب عليهم والضَّآلينquot; وهي ردّ على محسن العواجي في مقاله الذي سماه quot;تعالوا إلى كلمة سواءquot;: (عولمة) الفتوى و(خصخصة) الرأيquot;!

كما تتضمن المذكّرة تعليقًا مهمًّا حول مقالات quot;محمد بن عبداللّطيف آل الشيخ وquot;دعوته للمباهلةquot;.

هذا هو الشّيخ عبدالكريم.. لك أن تسمّيه رجلاً مصابًا بـquot;صدمة الحضارةquot;، ولك أن تسمّيه زاهدًا، ولك أن تناديه بالصُّوفي، ولك أن تناديه بالغريب وطوبى للغرباء، ولك أن تسمّيه غير ذلك، ولكن كلّ هذه الأوصاف كلمات ينقصها الدّليل، ويعوزها التّوثيق والتّحليل والتثبيت والتّعليل.

إنّه شيخ متقشّف في صومعته، جذب في طريقته خفّاضٌ في مشيته، يتوكّأ على عصاه ويهشّ بها على أطماعه، لا يملك من حطام الدُّنيا إلا ما يكفيه ليومه أو بعض يومه، مخلص لمنهجه، سالك في مدرجه، يقرأ دائمًا quot;مدارج السّالكينquot; لابن تيمية فيشعر أنّ الدنيا ليست له!

يجذبني منهجه، ويبهرني مدرجه، ولكن من المستحيل أن أعيش حياته، ولا تظنّ أيّها القارئ الكريم أنّ الشّيخ إجابة لسؤال، بل هو سؤال يتطلّب إجابة عميقة، لماذا هو هكذا ونحن هكذا؟
ولا تظنّ أنّ طلبة العلم بعيدين عنه، لا.. ليسوا كذلك، لأنّ المورد الذي شربوا منه واحد، ولكنّ الفرق أنّ الشّيخ الحميد صغّر الدّائرة، وهم كبّروها!
هو كان وما زال صادقا مع نفسه، وهم كانوا كالذي أتبع نفسه هواها فكان في هذه الدّنيا من المتنعّمين الطّامعين المتهافتين!

إنّ الشّيخ رجل صدق ما عاهد الله عليه من البساطة والزّهد، إنّه يعيش صراعًا طويلا وأبديًّا مع الحداثة ومنتوجاتها التي تتصادم مع quot; مغروس الثّوابت ومحصول التّقاليدquot;! لذا فهو ينكر ما لم يتعوّد عليه، مثل علم النّفس، وعلم الاجتماع، وإعجاز القرآن، والسيارات، ودوران الأرض، و الكهرباء، والقنوات الفضائيّة.. إلخ. أكثر من ذلك فللشّيخ مؤلّفات في هذا الخصوص، لعلّ من أبرزها كتابه quot;الفرقان في بيان إعجاز القرآنquot;، وهو كتاب يردّ فيه الشّيخ على المجترئين على كتاب الله تعالى باسم ما يُعرف بـquot;إعجاز القرآنquot;.

والشيخ مع كثرة التّأليف يقع في التّشابه، لذا قد تجد له كتابين يحملان موضوعًا واحدًا، ولو طلبت دليلاً لجاءك على النّحو التالي: للشّيخ كتاب اسمه quot;عوائق في طريق العبوديّةquot; موضوعه متماثل مع كتاب quot;إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوكquot;، وكلاهما يدور حول فوائد قيّمة للسّالكين طريقهم إلى الله.

وللشّيخ لقطات بلاغية رائعة، فهو يرى أنّ الحبّ لله جلّ وعزّ ولرسوله، أمّا محبّة الزّوجة فأمر محمود من غير تجاوز الحدود، مطالبًا في هذا الصّدد بتفعيل خاصيّة quot;المودّة والرّحمةquot;، انطلاقًا من قوله تعالى: quot;وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةًquot;، ولم يقل حبًّا وغراما!

وكلّ ما لم يوجد عند ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في العلم فهو دخيل غير أصيل، لذا يرفض الشّيخ كلّ مظاهر الحياة الحديثة ومنتوجاتها وإفرازاتها!
أكثر من ذلك.. يمارس الشّيخ التّشكيك بالحضارة الغربيّة المعاصرة، مستشهدا بأقوال بعض الغربيّين أنفسهم، حتّى يخنق المعجبين بها وفق قاعدة quot;وشهد شاهد من أهلهاquot;، وخاصّة كتاب ألكسيس كاريل quot;الإنسان ذلك المجهولquot;، وكتاب محمد أسد quot; الإسلام على مفترق طرقquot;.

وعلى ذلك فهو يستشهد مثلا بقول كاريل في وصف الحضارة الغربيّة عندما قال: (ومن ثمّ فإنّ التّقدّم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانيّة، فالبيئة التي ولّدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنّسبة لقوامنا ولا بالنّسبة لهيئتنا، إنّنا قوم تعساء، لأنّنا ننحطُّ أخلاقيًّا وعقليًّا!).

ثمّ يعلّق الشّيخ الحميد على هذا النّص بقوله: (والعجيب أنّ هذا الكلام لـquot;كاريلquot; قيل قبل أن تصل حضارتهم إلى ما وصلت إليه من التّدهور لأنّه ميّت منذ ستّين سنة وهذا كلامه.)!

وللشّيخ منهج ساخر في الرَّدِّ ndash; أحيانًا-، وعندما زرته مؤخّرٍا أهداني وريقات كتبها في الرَّدِّ على قرارات وتوصيات ما يسمى بـquot;المؤتمر العالمي لنصرة النّبي صلّى الله عليه وسلّمquot;، ليعلق الشّيخ على هذا المؤتمر قائلاً: (المؤتمر عقد في البحرين، والموضع quot;فندق شيراتونquot;، ولا تسأل عن الباقي..)!! والمؤتمر في نظر الشيخ الحميد ليس أكثر من مجموعة من المتعالمين، يحسنون لبس quot;المشالحquot;، ويتظاهرون بالعلم، لا يجمعهم إلا حبُّ العطاس وكثرة التّثاؤب!.

وممّا زوّدني به أيضًا قصيدة في وصف quot;قناة المجدquot;، وهذه بعض أبياتها وهي في حدود 100 بيت:

حَلَّتْ بِدَارِكَ شَاشَةٌ غَشَّاشَةٌ
رَحَّبْتَ فِيها دُوْنَما إِمْعَانِ
مَنْ كَانَ يَطْلُبُ دِيْنَهُ فِي شَاشَةٍ
جَاءَتْ لِهَدْمِ الدِّيْنِ والإيْمَانِ
وquot;المَجْدُquot; أصْبَحَ شَاشَةً مَنْظُورَةً
لمَّا أضَعْنَا مَجْدَنَا الإيْمَانِي
مَا مَجْدُ أُمَّتِنَا يُنَالُ وعِزُّهَا
بِخَوَادِعٍ رَاجَتْ عَلَى عُمْيَانِ
كَمْ غُرَّ بِالأسْمَاءِ غِرٌّ جَاهِلٌ
كَيْمَا يُلَبِّي دَاعِيَ الطُّغْيَانِ
quot; المَجْدُquot; لَيْسَ بِشَاشَةٍ إدْرَاكُهُ
حَاشَا لِدِيْنِ اللهِ مِنْ بُهْتَانِ
مَهْمَا تَزَوَّقَ بَاطِلٌ بِلِبَاسِهِ
فَالنُّورُ يَكْشِفُ زَائِفَ البُطْلانِ
والدِّشُّ والتِّلْفَازُ مَا أضْرَارُهَا
إلا كَمِثْلِ حَرَائِقِ النِّيْرَانِ

بعد كلّ ذلك يبدو الشّيخ الحميد، وفق حياته العجيبة وآرائه الغريبة، إلا تخليدا لقول أبي الدّرداء: (لن تفقه كلّ الفقه حتّى تمقت النّاس في ذات الله ، ثمّ ترجع إلى نفسك فتكون لها أشدَّ مقتًا). وقد شرح ابن القيم هذه المقولة بقوله: (وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله، فإنّ من شهد حقيقة الخلق، وعجزهم، وضعفهم، وتقصيرهم، بل تفريطهم، وإضاعتهم لحق الله، وإقبالهم على غيره، وبيعهم حظَّهم من الله بأبخس الثّمن من هذا العاجل الفاني، لم يجد بُدًّا من مقتهم، ولا يمكنه غير ذلك البتّة. ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره، وكان على بصيرة من ذلك، كان لنفسه أشدَّ مقتًا واستهانة، فهذا هو الفقيه)!

أكثر من ذلك.. يقول الأستاذ والمفكر حسين أحمد أمين في كتاب quot;الإسلام والغربquot; في صفحة 135 ما نصّه: (علّمنا التّاريخ أنّ المجتمعات التي تمرّ بهزّات عنيفة، أو تطورات ضخمة متلاحقة، كثيرًا ما تظهر فيها جماعات دينيّة انعزاليّة، تميل إلى أن تغلق الأبواب على نفسها في عالم خاصٍّ بها، وتقلّل إلى أقصى حدٍّ ممكن من صلاتها وعلاقتها ببقيّة العالم. وقد ظهرت مثل هذه الجماعات بين كلٍّ من اليهود والمسيحيّين والمسلمين). ولا أرى الشّيخ الحميد إلا رهين هذين النَّصين!

هذا هو الحميد الشّيخ، الذي يعتبر نفسه ضيفًا على أهل هذا الزّمان، لأنّه رجل تأخّر ميلاده ألف سنة، فتصميمه من تصميم أهل القرون الأولى!

وإذا أردت فوق كلّ ذلك مزيدًا، فاعلم أنّه في الوقت الذي يتهافت فيه طلبة العلماء ورجالاته على قصور الكبراء والوزراء، فإنّ الشّيخ الحميد يستعصم بعيدًا عن ذلك، بل يحصل العكس من ذلك تمامًا حيث يسعى إليه القوم فيستقبلهم أحيانًا وفي أخرى يعتذر ويرفض، وله في ذلك دوافعه ومبرّراته، فانظر وتأملّ وتذكّر أنّ الله يرفع من يشاء بغير حساب!

لقد ارتقى الشّيخ الحميد في الزّهد درجة جعلته يعمد إلى التّذكير بفنّ اسمه quot;حراسة الخواطرquot; على اعتبار أنّها الطّريق المؤدّي إلى الاستقامة متى ما تكاتفت مع quot;إشعال القلب بخواطر الإيمانquot; التي هي أصل الخير ومادّته من المحبّة والإنابة والتّوكّل ومحبّة الخير للمسلمين.
حقًّا لقد عرف الشّيخ الحميد أنّ الدّنيا كما يصوّرها شاعرهم:

ومَا هِيَ إلا سَاعَةً ثُمَّ تَنْقَضِي
ويَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ ويَزُولُ !!

لذا حبَّ الشَّيخ أن يستغلّ هذه السّاعة بما ينفعه، حتى يكون من الفائزين يوم تقوم السَّاعة!