خالد الدخيل

الانتخابات الأميركية الحالية تمثل لحظة متميزة في التاريخ الأميركي منذ المصادقة على الدستور الفيدرالي عام 1787، وانتخاب جورج واشنطن كأول رئيس للجمهورية عام 1789. طوال هذا التاريخ لم يسبق أن حصل في الانتخابات الرئاسية ما يحصل حاليا. خرج كل مرشحي quot;الحزب الديمقراطيquot; من السباق، وبقي مرشحان اثنان في الحلبة، وكلاهما ينتميان إلى طبقة الأقليات في المجتمع الأميركي؛ طبقة النساء، وطبقة السود: وهما السيناتورة هيلاري رودام كلينتون عن ولاية نيويورك، والسيناتور باراك حسين أوباما عن ولاية إلينوي. هذه النتيجة بحد ذانها تعكس نوعاً من الانقلاب الاجتماعي. لا يتمثل التميز في هذا بدخول مرشحين للرئاسة من بين الأقليات. سبق وأن دخل سباق الرئاسة القس الأسود، جيسي جاكسون من quot;الحزب الديمقراطيquot; عام 1984. كما سبق للسيناتورة، quot;جيرالدين فيراروquot;، أن كانت على بطاقة المرشح الديمقراطي والتر مونديل كنائبة للرئيس عام 1988. ما يميز الانتخابات الحالية هو دخول مرشحي الأقليات سباق الرئاسة بشكل قوي إلى درجة لم يسمح لمنافسيهما من الرجال البيض بالبقاء في الحلبة طويلاً. لم يسمح للمرأة بالتصويت في الانتخابات، دعك من الترشيح، إلا أثناء الحرب العالمية الأولى. بعد أكثر من ثمانين سنة أصبح بإمكان المرأة أن تكون منافساً قوياً للرجال في السباق إلى البيت الأبيض.

حجم النقلة بالنسبة لطبقة الأميركيين من أصل أفريقي أكبر من ذلك. عام 1857 رفضت المحكمة العليا حق العبد الأسود، دريد سكوت، في المطالبة بتحريره من العبودية لأنه لم يكن في نظر المحكمة إنساناً، بل كان سلعة وبالتالي لا يشمله الحق الإنساني في الحرية. حسب المؤرخ الأميركي، هوارد زن، كان نظام العبودية من التجذر في المجتمع الأميركي بحيث أصبح السبيل الوحيد للتخلص منه محصوراً في ثورة عامة للعبيد، أو حرب أهلية شاملة. وكانت الحرب الأهلية 1861ـ 1865 بالفعل بداية الطريق الطويل نحو حرية المجتمع الأميركي، قبل حرية العبيد. عام 1862 أصدر الرئيس ابراهام لينكولن إعلان حرية العبيد. استمرت مسيرة الحرية حتى هذه اللحظة، حيث أصبح ذلك الإرث العرقي من مخلفات تاريخ الثقافة الأميركية. في ضوء حجم نتائج الانتخابات الحالية صارت فرضية الوعي العرقي في المجتمع الأميركي في إطار مختلف، وتحت إضاءة تاريخية مختلفة.

لأول مرة في التاريخ الأميركي يقتصر السباق على ترشيح الحزب الديمقراطي بين امرأة ورجل أسود. وهذه سابقة لها دلالتها الاجتماعية والسياسية. الشاهد هنا أن كلا هذين المرشحين، كلينتون وأوباما، يملك الآن من الأصوات والقاعدة الشعبية ما يؤهله أن يكون منافساً قوياً لمرشح الحزب الجمهوري، المحافظ جون ماكين. ولعله من الواضح أن الحزب الديمقراطي هنا، وليس الحزب الجمهوري (حزب الرئيس الحالي)، هو الذي يمثل قوة الدفع والتغيير، على هذا المستوى، في المجتمع الأميركي.

لتقدير أهمية ما يحصل الآن يحتاج الأمر إلى بعض الإيضاحات حول نظام الانتخابات الرئاسية الأميركية. في هذا النظام تنقسم الانتخابات إلى مرحلتين: انتخابات أولية (The Primaries)، وانتخابات عامة (General election). الفرق بين الاثنين بسيط: في الانتخابات الأولية يكون التنافس على من يكون مرشح الحزب في الانتخابات العامة، من بين أعضاء الحزب. ونحن الآن في وسط هذه الانتخابات. في الانتخابات العامة يتنافس مرشحو الأحزاب على الفوز بالرئاسة. حالياً ينحصر التنافس بين مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري. الأمر الثاني أن الشعب لا ينتخب مباشرة، لا مرشح الحزب ولا رئيس الجمهورية. ما يحصل أنه في الانتخابات الأولية يصوت الناخبون لما يسمى بـquot;ممثلي الحزبquot; من كل ولاية. المرشح الذي يفوز بالعدد المطلوب من الممثلين يذهب إلى المؤتمر العام للحزب للمصادقة على النتيجة. العدد المطلوب في الانتخابات الحالية للفوز بالنسبة للحزب الديمقراطي هو 2025 ممثلا أو مفوضا. بالنسبة للحزب الجمهوري العدد هو 1191. بالنسبة للحزب الديمقراطي، هناك ما يعرف بـquot;الممثلين الكبارquot; أو (Super delegates). وهؤلاء هم أعضاء الحزب المنتخبين لمراكز سياسية في الدولة، سابقين وحاليين، مثل أعضاء الكونجرس، وحكام الولايات، والرؤساء السابقين. يبرز دور هؤلاء في حالة تساوي المرشحين الحاليين في عدد الممثلين. نظرياً يحق للممثلين الكبار أن يعطوا أصواتهم في المؤتمر العام للحزب لمن يشاؤون من المرشحين، من دون تقيد بنتيجة التصويت الشعبي في الانتخابات الأولية. من الناحية العملية غالباً ما يصوت هؤلاء للفائز بأغلبية الأصوات الشعبية، من خلال حصوله على العدد المطلوب من الممثلين العاديين. وهذا ما يحصل خاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يزالون على رأس العمل من ممثلي الحزب الكبار، الذين يحتاجون لإعادة انتخابهم مرة أخرى.

في هذا الإطار يبدو بروز نجم أوباما، كمنافس على ترشيح الحزب الديمقراطي في السباق إلى البيت الأبيض، ظاهرة فريدة. وهو كذلك لاعتبارات عدة. منها أنه أول مرشح أسود للرئاسة الأميركية يحصل على أصوات شعبية ضخمة، ويفوز بأكبر عدد من الولايات الأميركية أمام جميع منافسيه من الديمقراطيين في الانتخابات الأولية، بمن فيهم هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس السابق الذي كان يتمتع بشعبية واسعة مكنته من الفوز بالرئاسة في دورتين وبسهولة. ثانياً أن الأصوات التي فاز بها أوباما حتى الآن تمثل قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي تتجاوز السود إلى البيض، من النساء والرجال والشباب، ومختلف طبقات المجتمع. ثالثاً، أن تقدم أوباما في الانتخابات الأولية في هذه المرحلة، جعله الأوفر حظاً للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات العامة في نوفمبر القادم. وأهم ما يؤشر إليه هذا التطور هو التغير، وربما التحول الكبير الذي يبدو أنه حصل في موقف المجتمع الأميركي من الأقليات التقليدية فيه، خاصة الأقلية السوداء. يعكس هذا التغير أن التحفظات الاجتماعية والثقافية التي كانت تحول دون ترشح أحد من الأقليات التقليدية لمناصب سياسية كبيرة أخذت في التراجع، وربما الاضمحلال. حصل هذا التغير قبل أوباما بالنسبة لمناصب سياسية مثل عضوية مجلس النواب، وعضوية مجلس الشيوخ، وحكام الولايات، حيث أن أفراداً من الأقليات فازوا بهذه المناصب.

الآن يأتي الامتحان إلى منصب الرئيس. السؤال: هل حانت لحظة دخول مرشح من الأقليات إلى البيت الأبيض؟ هناك من يقول بأن المجتمع الأميركي، رغم كل ما حصل لا يزال غير مهيأ لمثل هذه النقلة. كيف يمكن إذن فهم نتائج الانتخابات الأولية حتى الآن؟ النتيجة الحالية في الحزب الديمقراطي تؤشر إلى أن تغيراً كبيراً حصل للمجتمع الأميركي. قد لا يكفي ذلك لأن تفوز كلينتون أو أوباما في الانتخابات العامة أمام مرشح الحزب الجمهوري، ماكين. لكن حتى فوز الأخير بالرئاسة لا يلغي حجم ما حصل من تغير اجتماعي. من ناحية أخرى، تشير نتائج الانتخابات الأولية حتى الآن إلى أن إمكانية فوز أوباما، ليس فقط بترشيح الحزب الديمقراطي بل بالرئاسة، تبدو كبيرة بالمقارنة مع كلينتون وماكين معاً. فأولاً ارتباط ماكين بسياسة الإدارة الحالية لن يساعده في الانتخابات العامة. ثانياً أن نمط التصويت الأميركي يميل إلى تغيير الرئيس وحزبه، خاصة عندما يكون الرئيس الحالي قد أمضى الفترتين الرئاسيتين اللتين يسمح بهما الدستور. ثالثاً أن القاعدة الشعبية لحملة أوباما، كما تشير نتائج التصويت حتى الآن، هي أكبر وأعرض اجتماعياً من كلينتون وماكين معاً. فهي تشمل بشكل ثابت حتى الآن الشباب، والسود، وأعضاء الطبقة الوسطى، والليبراليين، والمستقلين. بل إن هذه النتائج في انتخابات العاصمة، وولايتي فرجينيا وويسكنسون، تشير إلى أن شعبية أوباما بدأت تخترق جمهور كلينتون وماكين، مثل النساء، وكبار السن، والأميركيين من أصل إسباني. بعض الجمهوريين أعطوا أصواتهم في بعض الولايات التي تسمح بذلك لأوباما. ثم هناك الحجم الكبير للحضور الجماهيري لخطابات أوباما في مهرجاناته الانتخابية. ووفقاً لتقارير صحف أميركية، مثل الـquot;نيويورك تايمزquot; والـquot;واشنطن بوستquot;، يفوق هذا الحضور ما يحصل في المهرجانات الانتخابية لكلينتون وماكين. الإجماع حالياً أن أوباما يقود حركة اجتماعية سياسية، وليس فقط حملة انتخابية. تحول أوباما إلى نجم ذي جاذبية خاصة، دفعت البعض إلى الخوف من تحول هذا الإعجاب إلى نوع من عبادة الفرد، وهو شيء له حساسيته في الثقافة السياسية الأميركية. في كل الأحوال نحن أمام انتخابات جديدة، بتوقعات، وربما نتائج جديدة أيضاً. عندما بدأ أوباما يخطط للترشح عام 2006 طرح عليه سؤال عن عقبة العرق، فأجاب: المجتمع الأميركي جاهز للتغيير. والتغيير هو شعار حملته الانتخابية. هل هذا ما حصل بالفعل؟ سنعرف الإجابة في نوفمبر القادم.