توفيق المديني
بعدما نجحت الإدارة الأميركية المدفوعة بقوة إيديولوجية المحافظين الجدد، في صياغة وفاق وطني لتهيئة المناخ لغز العراق عبر إطلاق حملة تضليل إعلامي ضد مفتشي الأمم المتحدة وتغذية الإشاعات الصادرة عن أجواء البنتاغون حول علاقة مفترضة لرئيس النظام البعثي السابق صدام حسين مع تنظيم القاعدة،مدعومة من الرأي العام الواقع تحت صدمة أحداث 11سبتمبر 2001 (حوالى ثلاثة أرباع الاميركيين أيدوا غز العراق وصدقوا الأكاذيب حول أسلحة الدمار الشامل والعلاقة) ومتشجعة من قبل الجهل الأميركي ببيئة عراقية وشرق أوسطية غاية في التعقيد، هاه الغز الأميركي ndash; البريطاني للعراق يتحول إلى كارثة حقيقية للمحتلين وحلفائهم، وللشعب العراقي في آن معا.
يكتب السيد جيفري ريكورد الأستاذ في ldquo;معهد الحرب الاميركيrdquo; معبراً عن الانتقادات اللاذعة التي يطلقها في حلقاتهم الخاصة العديد من كبار الضباط حتى داخل قيادة الأركان: ldquo;إن الخلط (الذي قام به البيت الأبيض) بين القاعدة وعراق صدام حسين كان خطأ استراتيجيا من الطراز الأول(...) نتج منه حرب وقائية (ضد بلد) كان يمكن ردعه (...)، وإيجاد جبهة جديدة للإرهاب الإسلامي في الشرق الأوسط وتبديد للموارد (الاميركية)rdquo;. وفي نظر الكاتب إن الأهداف الاستراتيجية المعلنة في ldquo;الحرب الشاملة على الإرهابrdquo; هي ldquo;غير واقعية وترغم الولايات المتحدة على السعي من دون نتيجة وراء الأمن المطلقrdquo;. ويورد السيد ريكورد تقريراً داخلياً للجيش الاميركي (المشاة) جرت كتابته قبل الغز ويتوقع ldquo;مشكلات حادة في العراقrdquo; في حال احتلال طويل المدى من دون دعم دولي، كما يعتبر أن الحال المزرية للمالية العامة الاميركية والنقص في الدعم الشعبي سيرغمان الولايات المتحدة قريبا على ldquo;الحد من مطامحها في العراقrdquo;.
باتت المعطيات الإنسانية المعروفة تتحدث عن نفسها، وتعبر عن حجم الكارثة في الوقت عينه.ففي جانب المحتلين، هناك ما يقارب 4000 قتيل، وأكثر من 24000 جريح مشوه. وفي جانب الشعب العراقي، حصدت الحرب المدمرة أكثر من 650 ألف قتيل حسب إحصائيات المصادر المحايدة.
ويجمع المثقفون الغربيون المتخصصون في شؤون الشرق الأوسط، مثل جون مويلر، وباري بوزن، وستيف ستيدمان، وجيم كوفمان، أن العراق صار مسرحاً لحرب أهلية، وأنه ليس صحيحاً أن ثمة مخاوف من حرب أهلية. هذه الحرب بدأت منذ فترة طويلة نتيجة سلسلة الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون والتي صبت في انفلات الغرائز في مجتمع قضى النظام العائلي البعثي السابق على نسيجه الذي عمره مئات السنين.
ولم يفعل الأميركيون سوى زرع بذور الطائفية والمذهبية والنعرات القومية في عراق مهيّأ لذلك. ففي حال اندلاع الحرب الأهلية في العراق على أوسع نطاق lsquo; فإنها ستتخذ على الأرجح عمليات اقتصاصية متصاعدة تقوم بها المليشيات العراقية القوية، إلى جانب اندلاع موجات من العنف الغاضب الذي يتسم بالعشوائية والغوغائية. ومن المحتمل أن تقود المليشيات المذهبية بمهاجمة المساجد ومنازل الشخصيات المهمة في الطوائف الدينية والعرقية المتناحرة، كما سيشمل العنف المواطنين العزل.. وبمرور الزمن تتولد الرغبة في الانتقام من المليشيات الأخرى التي تقوم بأعمال مماثلة ضد جماعات مختلفة وتتوسع دائرة الثأر والانتقام.
ثم إنه بعد أن تغير الولاء للوطنية العراقية وللعروبةالسياسية، وصار الولاء للمذهب والطائفة قبل أن يكون للعراق أكان ذلك لدى أهل السنّة أ لدى الشيعة، ستسعى المليشيات والجماعات المسلحة إلى حماية أهلها وذويها عن طريق عمليات التطهير العرقي في المناطق التي يعيشون فيها.
العراقيون ليسوا أحرارا في أن يقولوا فيما يدور في عقولهم، أ أن ينتموا إلى أي مجموعة معينة، أ أن يمشوا في الشوارع من دون أن يخاطروا بحياتهم .فالسلطة قد انتقلت في الواقع إلى مليشيات غير ديمقراطية، تفرض قوانينها بقوة السلاح، تقيم محاكم صورية تحكم باسم الشريعة . فلا يوجد هدف مثالي أفلاطوني للغز يمكن مساندته.إنه لا يوجد سوى في عقل المحافظين الجدد وإدارة الرئيس جورج بوش، وقنابلها الانشطارية، ونموذجها الاقتصادي المستوحى من فلسفة صندوق النقد الدولي. فهذه الإدارة الأميركية هي التي أملت الحرب بطريقتها المعروفة، بحثا عن السيطرة الاستراتيجية على منابع الثروة النفطية، وحجتها الكلاسيكية في ذلك البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق.
وها ه اليوم المؤرخ فرانسيس فوكوياما الذي اشتهر بإعلانه عن ldquo;نهاية التاريخrdquo;، والذي يقسم أنه لم يكن يوما من المحافظين الجدد، يقوم حاليًا بنقد ذاتي. ففي كتابه الجديد ldquo;أميركا عند مفترق طرقrdquo;يسحب فوكوياما دعمه لحرب العراق:rdquo;إن إدارة بوش تمادت وتجاوزت حدودها وهي تعد بسرعة وإرث الولاية الأولىrdquo;. فقبل انهيار الإتحاد السوفييتي بكثير من الوقت، اعتبر أنّ نموذج الديمقراطيّة الأميركي يستعدّ ليصبح معيارًا عالميا.
لقد شكّل الديكتاتوريّون الذين يتمسكون بالحكم الاستبدادي عقبة في وجه تقدّم التاريخ. لذلك قامت الولايات المتحدة التي اكتسبت قوّة عسكريّة جبّارة بعد العام 1989 بمدّ يد العون إلى التاريخ. بعد مرور ثلاث سنوات، وجد فوكوياما نفسه معاقبًا. فبفضل الإدراك المتأخّر للأمور تراه أيقن الآن إسوةً بغيره من المحافظين الجدد أنّه كان ساذجاً حين أيّد تغيير النظام في العراق.
ما الخطأ الذي اقترفه المحافظون الجدد في نظر فوكوياما؟ أوّلاً خضع المحافظون الجدد للوهم القائل إنّ ldquo;الهيمنة الأميركيّة الحميدةrdquo; قد تلقى ترحيبًا كبيرًا في الخارج. ثانيًا، كانوا مقتنعين بالعمل الأحادي المنجز. ثالثًا، اعتمدوا سياسة وقائيّة ترتكز على تكهن المستقبل أكثر ممّا كان ممكنًا. إضافةً إلى ذلك استخفّ المحافظون الجدد بأخطار الديمقراطيّة في الشرق الأوسط كأن يفوز الإسلام الراديكالي في الانتخابات.
إنها صدمة قوية، لقوة عظمى امبراطورية، كانت تتفاخر على الدوام بالطريقة التي اتبعتها لدمرقطة ألمانيا اليابان بعد هزيمتيهما في الحرب العالمية الثانية، برؤيتها لاندثار أعتى الديكتاتوريات العسكرية والشيوعية في النصف الثاني من القرن العشرين،معتقدة أن فلسفتها السياسية ستفرض نفسها في كامل أصقاع الأرض ndash;بقوة النموذج أكثر منه بقوة السلاح-مكرسة بذلك نهاية التاريخ.
إن واحدا من المقومات الأساسية لأية امبراطورية في العالم هي تسلحها بمشروع العمومية، أي القدرة على التعامل بالمساواة مع الأفراد الشعوب الأمم المختلفة. فقد كانت الثورة الفرنسية حاملة لمشروع العمومية، حين نادت بمبدأ الحرية للجميع، بينما عاملت الشيوعية التي تعتبر الإيديولوجيا الأكثر عمومية بعد الثورة الفرنسية، جميع الشعوب المغلوبة بالتساوي. أما الولايات المتحدة الأميركية التي تبشر بمشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد، فهي تشهد تراجعا كبيرا في العمومية بوصفها إدراكا ووعيا مشروعا يقوم على المساواة والعدالة المسؤولية للعالم. إن العمومية مورد أساسي لكل دولة، سواء أكانت تسعى إلى السيطرة لتنظيم الأمور في العالم العربي الإسلامي، أو تسعى إلى فعل ذلك في فضاء أوسع متعدد الإثنيات امبريالي.
لقد أصبح العراق ldquo; الكلمة العربية لفيتنام ldquo;, هذا ما نقرأه على التيشيرتات واللافتات في المظاهرات المناهضة للحرب في الولايات المتحدة . ldquo; العراق هي فيتنام جورج بوشrdquo;, وهذا ما يردده السيناتور الديمقراطي ادوارد كينيدي، بفاصل زمني يمتد ثلاثين عاماً لا ينفك العراق وفيتنام يثيران الضجة. في الوقت الذي يجابه فيه رئيس الكونغرس الديمقراطي استراتيجية الانسحاب، هل ينير الصراع في فيتنام الطريقة التي يمكن أن تنتهي فيها الورطة الأميركية في العراق؟
بعد أربعين عاماً، يعود شبح فيتنام ليقض مضاجع الولايات المتحدة. فان تحالف اليمين المتطرف الذي وصل إلى السلطة عام 2000 مهووسا بفكرة ldquo;ترميم إرادة النصرrdquo; بحسب تعبير السيد ريتشارد بيرل ودفن ldquo;العارض الفيتناميrdquo; نهائيا، تحلق حول إدارة بوش ليغرقها في المستنقع العراقي ضمن حرب تجريبية تؤدي إلى أزمة مشروعية عميقة.
في آب/أغسطس 1964، انطلقت واشنطن في حرب باطلة وكارثية في آسيا كلفت عشرات آلاف القتلى الاميركيين وملايين الفيتناميين. وكان الدافع وراء حرب فيتنام خشية واشنطن من فقدان مصداقيتها أكثر منه العدوى الشيوعية المحتملة (مفعول ldquo;الدومينوrdquo;) في شرق آسيا وقد دامت هذه الحرب لأكثر من عقد من الزمن وأحدثت شرخاً داخل المجتمع الاميركي. مع أن بعض العقلاء داخل جهاز الدولة كانوا يدركون منذ العام 1967 أن هذه الحرب خاسرة سلفاً، فقد لزم الأمر الانتظار حتى العام 1973 كي يقدم الرئيس ريتشارد نيكسون المنتخب في العام 1968 والمصمم كما سلفه السيد ليندون جونسون على ldquo;أن لا يكون أول رئيس اميركي يخسر حرباًrdquo;، كي يقدم أخيراً على الانسحاب وترك حكومة سايغون تواجه مصيرها.
على أرض الواقع، لا يوجد أي تشابه بين الصراعين. ولكن مبررات الحرب واحدة في الحالتين، تحقيق أمن الولايات المتحدة بدمقرطة بلد يعتبر بنظرهم مركزاً لتهديد أيديولوجي أكبر , في الأمس كانت الشيوعية واليوم هو الإسلام الأصولي. ومن الناحية العسكرية، يعتبر التورط الأميركي في العراق مختصراً أكثر. لقد كان لدى الولايات المتحدة 580 ألف جندي في فيتنام مقابل 156 ألف جندي اليوم في العراق.
هل يوجد تماثل بين الحرب الأميركية في العراق المستمرة منذ خمس سنوات، والحرب الأميركية في فيتنام المنتهية منذ أكثر من ثلاثين عاما؟ معظم المحللين الغربيين، لا سيما الأميركيين منهم يعتبرون أن العراق هي غلطة السياسة الخارجية الأكبر منذ الحرب الفيتنامية.
وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في مقال كتبه لصحيفة ldquo;لوس أنجلوس تايمزrdquo; في سنة 2007، قارن بين العراق وفيتنام مؤكداً أن ldquo;التاريخ لا يعيد نفسه أبداً بالطريقة نفسها. العراق وفيتنام حربان مختلفتان في زمانين مختلفينrdquo;، إلا أنه أقر بوجود ldquo;تشابه مهمrdquo; بينهما. واعتبر أن هذا التشابه يكمن في أنه في الحالتين ldquo;وصل النقاش الداخلي الأميركي إلى درجة من الحدة استبعدت النقاشات العقلانية والخيارات الصعبةrdquo;. وشدد على أنه ldquo;يجب استخلاص استقرار سياسي انطلاقاً من الرؤى المتلاقية تارة والمتصارعة طوراً للأحزاب العراقية ولجيران العراق وغيرها من الدول المتأثرة (بما يجري في العراق) اعتماداً على القناعة بأن المرجل العراقي يمكنه إذا لم يتم ذلك أن يفيض ويغمر الجميعrdquo;. وشدد على أن ldquo;الشرط الملزم الأساسي يكون بالحفاظ على القوة في المدى المنظورrdquo;.
في الحقبة الفييتنامية، أخذ الرأي العام وقتاً طويلاً قبل أن ينقلب على الحرب، لوقت طويل، أصغى إلى دعوات الصبر, والخطابات حول ldquo; الإشارات المشجّعةrdquo; التي كانت تصل من أرض المعركة.في تشرين الثاني 1967 أعلن الجنرال ويليام ويستموركلان :rdquo; إننا نحرز تقدّماً حقيقياًrdquo;. استمر الرئيس بوش لغاية بضعة أشهر مضت يكرر الجملة ذاتها ldquo;إننا سنكسب الحربrdquo; في العراق.
المراجعة الجارية في الولايات المتحدة الأميركية حول مرتكزات الغزو للعراق هي الأعنف حاليا منذ حرب فيتنام. الحال هذه ليست غريبة أن تأخذ هذه المراجعة في الصحافة الأميركية من أجل إعادة تموضع الحقيقة فوق مصالح الحزب الجمهوري، إدارة الرئيس بوش، ولكنها لمصلحة قيم الأمة الأميركية الليبرالية الديمقراطية، تظهر طابعا ثأريا أحيانا بحق المتسببين الرئيسيين لهذه الحرب.
التعليقات