عاطف الغمري

وكأنهم يمارسون دبلوماسية قتل الوقت وليس استثماره، أو كأنها دبلوماسية وقت الفراغ، ففي يوم 8 فبراير/شباط 2008 شهد منتدى السياسة بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (المرتبط بالإيباك وحكومات ldquo;إسرائيلrdquo;)، مناظرة تحدث فيها كل من هارفي شيرمان رئيس معهد بحوث السياسة الخارجية في فيلادلفيا، ومارتن انديك مساعد وزير الخارجية الأسبق للشرق الأوسط، ومدير مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز.

.. وبمتابعة كلام كل منهما، يظهر أمامنا معنى دبلوماسية قتل الوقت بالمبادرات أو بالمناورات الدبلوماسية التي توالت علينا من خطط ومشروعات التسوية، إلى زيارة بوش الأخيرة للمنطقة، وجولات كوندوليزا رايس، ومؤتمر أنابولس، ولقاءات أبومازن وأولمرت، الى ما يستجد حتى نهاية حكم بوش.

وهذا نوع من دبلوماسية قتل الوقت، وسبق أن عرفنا بعض أشكالها بصور مختلفة، وكان أشهر ممارساتها أيام حكم نيكسون، حيث يكلف وزير الخارجية ويليام روجرز بمواصلة اتصالاته مع العرب، وبث الشعور لديهم بالاطمئنان الى جدية أمريكا في حل المشكلة العربية ldquo;الإسرائيليةrdquo;، بينما مستشار الأمن القومي (وقتئذ) هنري كيسنجر يمارس دبلوماسية مخالفة.

والمناظرة التي أتحدث عنها كان موضوعها هو عرض فترة الرئاسة الثانية بمعنى العرض المرضي حيث يركز الرئيس في ولايته الأولى على إعادة انتخابه لفترة ثانية، وعلى العكس من ذلك فهو في الفترة الثانية يركز كما شرح شيرمان على ما سيتركه وراءه من تراث، يبقي اسمه ناصعا في تاريخ الرؤساء بعد مغادرته البيت الأبيض.

وإن عرض الفترة الثانية له نفوذ كبير على أولويات سياسات الرئيس، وبالنظر إلى أجندة الدقائق الأخيرة للرؤساء، وباختيار ثلاثة منهم كانوا محل متابعة شيرمان هم ريجان، وكلينتون وبوش، فإنه يتكشف أن لديهم مزجا بين عرض الفترة الثانية، وبين عرض القدس، وهو ما يظهر في سلوك اللحظة الأخيرة لديهم، نحو النزاع ldquo;الإسرائيليrdquo; الفلسطيني.

يقول شيرمان: إن علامات هذا العرض ظهرت على الرئيس بوش، فقد زار القدس في يناير/كانون الثاني الماضي، وبدا عليه وكأنه يعتقد في إمكان تحقيق معاهدة سلام مع نهاية فترته الثانية، ومع أن هذا هدف جدير بالإطراء، فإنه غير واقعي، في ضوء الظروف الراهنة على الأرض.

ويشرح شيرمان كيف أن بوش مشغول بمشكلة إيران لكن قدرته على وضع نهاية لبرنامجها النووي، وتأييدها للإرهاب، هو خارج نطاق إمكاناته، وبالرغم من أن قلب بوش ربما يكون مشغولا بالنزاع ldquo;الإسرائيليrdquo; الفلسطيني، فإن عقله أكثر انشغالا بالخليج (إيران)، وإذا فشل بوش بعد ذلك كله، في إيجاد سلام بين ldquo;إسرائيلrdquo; والفلسطينيين، فلن يكون حاله أسوأ من حال الرؤساء الذين سبقوه، أما لو ترك العراق يسوده التمزق والخراب، وإيران متمتعة ببرنامجها النووي، فإن تراثه يكون قد ضاع.

.. ثم تحدث مارتن انديك الذي عمل في حكومة كلينتون موضحا أن كلينتون قد عانى من عرض فترة الرئاسة الثانية، وكانت تقوده حاسة التاريخ، لكنه بعكس بوش لم يتأثر بعرض القدس، الذي يظهر في الدقائق الأخيرة من ولاية الرئيس، فكلينتون كان نشطا في جهوده لإيجاد تسوية سلام ldquo;إسرائيليةrdquo; فلسطينية، وإن لم يتمكن من إنجازها.

ويقول انديك: منذ قابل الرئيس بوش، رئيس وزراء ldquo;إسرائيلrdquo; شارون في مارس/آذار ،2001 شعر بأن الظروف ليست مواتية لإعادة البدء في عملية السلام.

ولو أن كلينتون فهم ذلك في وقته، لكان قد تأكد أنه يحتاج إلى خفض أهدافه، ولكان من الأفضل لو أنه خرج بشيء ممكن التحقيق، مثل اتفاق يقتصر على ترتيبات بشأن الأراضي (يقصد الأراضي المحتلة)، بدلا من أن يجعل القدس هي الجزء المحوري في جهوده للسلام، وبالتالي فإن بوش يجب أن يتذكر أن يكون واقعيا بشأن ما الذي يمكن تحقيقه، وذلك بأن يضع في حساباته الموقف على الأرض.

.. إن أبرز نقاط هذه المناظرة بين اثنين من أكبر المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، هو تصويرها للرئيس في فترته الثانية وكأنه غير قادر على اتخاذ قرار لحل النزاع ldquo;الإسرائيليrdquo; الفلسطيني، وان ما يظهر عليه من حماس ومن تصرفات توحي بالجدية، هي مجرد أعراض، وليست سلوكا عمليا، أو بناء على خطة مدروسة، وأن المشكلة في الظروف الراهنة كما يرى انديك مثلا أكبر من قدرة بوش على حلها، ويبدو أن الاثنين المشاركين في المناظرة، قد ظهر عليهما عرض ثان، هو عرض الالتفاف على الواقع، والمراوغة في المواجهة المباشرة، يظهر ذلك في ناحيتين:

(1) نبدأ هذه الناحية بالسؤال: هل غاب عنهما أن الرئيس الأمريكي قادر على أن يفرض قراره، لو كانت لديه إرادة وضع المصلحة العليا لبلاده فوق حسابات المكاسب الانتخابية، أو حساباته الإيديولوجية كما هو الحال عند بوش، والتاريخ شاهد على ذلك، وأنني استشهد بما جاء في كتاب الاختلاف بين الرؤساء: نمط القيادة من فرانكلين روزفلت إلى كلينتون، للمؤلف الأمريكي فريد جرينستين ويقول: إن ثلاثة رؤساء فقط من بين الاحد عشر رئيسا الذين تناولهم في دراسته، هم الذين أفلحوا في تحرير إرادتهم كرؤساء من سيطرة المشاعر الشخصية، وهم ايزنهاور وفورد وبوش الأب، وإن كنت أضيف إليهم كلينتون من خلال عملي في واشنطن في فترة رئاسة كلينتون.

فالرئيس ايزنهاور وجه إنذارا إلى بن جوريون عام 1957 بمعاقبة ldquo;إسرائيلrdquo; إذا لم تنسحب من سيناء، والرئيس جيرالد فورد اتخذ قرار عام 1975 بإعادة النظر في مجمل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ردا على رفض ldquo;إسرائيلrdquo; الالتزام بما تعهدت به في شأن اتفاقات فك الارتباط مع مصر.

والرئيس بوش الأب، قرر وقف تقديم قرض إسكان قيمته عشرة مليارات من الدولارات، لrdquo;إسرائيلrdquo;، ردا على مخالفة حكومة اسحق شامير، ما تعهدت به في مؤتمر مدريد 91 من وقف المستوطنات، وفي كل هذه الحالات خضعت ldquo;إسرائيلrdquo; لما قرر الرئيس الأمريكي أنه أمر يخص مصالح بلاده.

(2) إن كلينتون كان قد قطع شوطا كبيرا في كسر الجمود أمام المشكلات التي يوصي المتحدثان في المناظرة بتجاوزها، وبالأخص مشكلة القدس، وكلينتون وضع كل ثقل بلاده وراء تحريك مفاوضات إعادة الانتشار في الضفة الغربية، واستكمالها بمفاوضات الوضع النهائي التي تناقش قضايا الحدود واللاجئين والمياه والقدس.

وحتى لو كان كلينتون لم ينجح حتى نهاية حكمه في عام ،2000 بسبب معاكسات الليكود ونيتانياهو أساسا، فإن الحكومة التي خلفته لم تحاول استكمال ما بدأه، بل قررت حكومة بوش من أول يوم نسف كل ما بناه، اعتمادا على فلسفتها القائمة على الطلاق مع كل ما فعله كلينتون في الشرق الأوسط، وإعلان انقلابهم على عملية السلام، حسب برامج المحافظين الجدد المعلنة والمنشورة، والتي شملت رفض مبدأ مدريد الأرض مقابل السلام، ورفض قيام الدولة الفلسطينية ودفع ldquo;اسرائيلrdquo; للتشدد في موقفها بعدم الموافقة على أي حل يعيد القدس الشرقية إلى الفلسطينيين.

ثم إن كلا من المتحدثين شيرمان وانديك قد تجاهل أن هناك أساسا بنيت عليه عملية السلام، وأن وجودها يصير عدما، بغير هذا الأساس، وهو قرارا مجلس الأمن 242 و،338 ومبدأ الأرض مقابل السلام (مدريد 1991)، وأن القدس جزء من هذه الأرض التي احتلت في 67.

.. المسألة إذن ليست أعراضا مرضية بشأن القدس، أو لصعوبة حل المشكلة الفلسطينية، لكنها مسألة الخضوع الأمريكي، إما لحسابات السياسات الداخلية والانتخابات، أو لسطوة الإيديولوجية لدى المحافظين الجدد، وإما أنها لعرض آخر هو عجز أقوى دولة في العالم، عن أن تفي بالتزامات، حملتها لنفسها، بحل عادل شامل تلعب فيه دور الوسيط النزيه، وأن تخاف على مصداقيتها في نظر شعوب العالم، فإن قوة الدولة العظمى ومكانتها ونفوذها، هما رهن مصداقيتها، قبل أن يكونا رهن قوتها.