سرمد الطائي
أشعر بلون من الانتماء إلى أفلام الموت القادمة من غزة، في وسعي تذكّر طعم المشهد وشم رائحته وتحسس ملمسه الخشن والمتيبس، استرجاع نمط دقات القلب الذي يرافق من يقيم داخل لقطة من هذا القبيل.
غزة جزء من سيرتي (سيرتنا) نحن الذين كان لنا laquo;شرفraquo; العيش في ظل حكومة laquo;الثوارraquo; الكبار، مسؤولي أنظمة كانوا أم زعماء حركات مسلحة أم آيات الله، يوم عايشنا الموت مقترنا بجوع المحاصرين، مرات عدة.
علاقتي الطبيعية بهذه المآسي ولّدت عندي رغبة بطرح أسئلة الموتى لسماع laquo;أنين مختلفraquo; لضحايا مطمورين تحت بنادق الثورة... كي أتساءل بوصفي ناجيا من بعض laquo;الغزّاتraquo; أو ميتا عائدا كان يقيم في مشهد متطابق يتكرر في أماكن عرفناها وأخرى لم نعرفها.
شهيد بالإجبار
حدث قبل ثلاثة أعوام، أن جاري في إحدى مدن العراق، كان يحاول إخفاء أطفاله تحت سلّم الدار، اتقاء لمعارك شرسة تدور في الحي، لكن زوجته راحت تصرخ حين لمحت عناصر من إحدى الميليشيات laquo;المقاومةraquo; يتسلقون السطح وينصبون أسلحتهم هناك بينما الدبابات الأميركية تلاحقهم. هرع صاحبنا ليرجوهم البحث عن ساحة أخرى للمعركة: لماذا تستدرجون الدبابات إلى داري؟ هناك باحة واسعة أمام الحي، أنشئوا خنادقكم هناك وقاتلوا. رجاء خائف على أرواح الصبيان لم يجد جوابا إلا برصاصة تنطلق من كلاشنكوف laquo;مقاومraquo; لتردي رب البيت. إنه laquo;متخاذلraquo; يرفض التضحية!
في واقعة مشابهة، لم ينته المشهد هكذا، توفرت ظروف مساعدة شجعت الأهالي على laquo;طرد المجاهدينraquo; بالقوة من الحي السكني... قالوا لهم: حاولوا أن تختاروا مكانا مناسبا laquo;لجهادكمraquo;. لم يكن الأهالي ضد laquo;التحررraquo; بل كانوا يرمون إلى معنى بالغ الخطورة.
سألت أحد زعماء laquo;الكفاح المسلحraquo; في العراق مرة: إذا كنت تود الذهاب إلى laquo;جنتكraquo; فلماذا تصر على أخذنا جميعا معك بالطريقة التي تختارها أنت، وبتوقيتك أنت؟ وكأي laquo;مناضلraquo; راح ينعتني بالجبن.
أهالي سريناغار في كشمير، وقرى الكونغو، وآخرون في غابات كولومبيا، البلدات الكردية والأفغانية، جنوب لبنان والسودان، مختلف المناطق التي ينشط فيها laquo;الثوارraquo;، ملزمون بالرضوخ لقرارات عدد من المسلحين، ذاهبون إلى الجنة بقرار من ذلك العدد المحدود، عائدون من الجحيم بقرار من هؤلاء أنفسهم.
عار أن تنتقد طريقتهم في صناعة القرار، وستكون جبانا لو اعترضت على مفهومهم laquo;للشجاعةraquo; أو التوقيت الذي اختاروه، أو التناقضات التي تمتلئ بها بياناتهم وخطاباتهم.
غزّتان لصدام والخميني
عام 1986 اقترب الجيش الإيراني كثيرا من البصرة، كنا نقيم في بلدة laquo;التنومةraquo; التي تبعد 15 كم عن الحدود مع المحمّرة، بتنا نسمع صوت الأسلحة الخفيفة ونبتلع الأسلحة الثقيلة، لكن الجيش العراقي رفض السماح لنا بالمغادرة. كان ضابط أمن يردد laquo;تريدون العبور إلى الجهة الأخرى من المدينة لتثبيط معنويات المواطنينraquo;. بعد يوم من ذلك جاء قائد عسكري بقي لديه شيء من الفروسية، وسأل ضابط الأمن مستنكرا: كيف سأحارب والمدنيون ينتشرون في ميدان القتال؟ أمر بإخلائنا بسرعة، لكن العشرات منا كانوا لقوا حتفهم دون مبرر.
نظراؤنا الإيرانيون عاشوا حالا مشابهة. قتل مئات الآلاف بينما كان آية الله الخميني يؤكد أن التضحيات مطلوبة حتى laquo;تحرير القدس وكربلاءraquo;. وبعد ثمانية أعوام اضطر لإنهاء القتال الذي كان يمكن إنهاؤه قبل ذلك بكثير. اكتفى بالقول إن الثورة انتصرت... لأنها قدمت laquo;تسهيلات للشباب بالعروج إلى السماء والإقامة في الجنةraquo; وهذه العبارة مأخوذة نصا من خطابه الشهير العام 1988.
في ألمانيا وبينما كانت الدبابات الروسية تقتحم laquo;الرايخ العظيمraquo; مقر قيادة هتلر، معلنة الهزيمة النهائية، ظلت فرق الفوهرر تتجول في أحياء برلين وتنفذ أحكام الإعدام بفتيان رفضوا حمل السلاح. كم هي متشابهة محنة الإنسان يا ترى؟
خيط حسين عبد اللطيف
العديد ممن يموتون في إطار laquo;بزنسraquo; الثورات المسلحة، يرددون: نحن ضحايا، لم نرد أن نكون شهداء، لم نتخذ قرارا بالموت بعد أيها السادة.
كم من شهيد يا ترى كان موافقا على قرار الحرب أو العنف المسلح؟ كم من جريء اعترض على laquo;استبداد الحكوماتraquo; ولم تسعفه الجرأة في الاعتراض على laquo;استبداد الثوارraquo;؟
بوصفنا أمة laquo;متحمسةraquo;، فإننا لا نمتلك الوقت الكافي لطرح الأسئلة، ليس لدينا وقت أو مزاج مناسب للإنصات إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو يردد laquo;إذا كانت المقاومة تريد فناء الشعب، فنحن لا نريدهاraquo;.
وبوصفنا أمة laquo;متحمسةraquo; فإننا لا نمتلك وقتا لكي نسمع الأنين الآخر في laquo;غزّاتraquo; عديدة داخل عالمنا، الملايين ينصتون لأمثال خالد مشعل، لكن لا أحد ينصت لجاري الذي laquo;استشهدraquo; بالإكراه وكان يعترض على laquo;دكتاتورية الثوارraquo;. لا أحد يصغي لكلمات الموتى: لماذا يصر المجاهدون على أن يحاربوا داخل داري؟ لماذا يحرق الثوار بيوتهم؟ يستبد المحتل والثائر معا، بقرار الاحتلال وقرار المقاومة.
كنا نقول للثوار، إننا مستعدون للموت قبلكم، لو وجدنا في ذلك مخططا مجديا لتحرير الأوطان في هذه اللحظة وضمن الظروف القائمة. لكن موت مليون مسكين منا، ربما يجعل منكم أنتم زعماء مرفهين، دون أن يحرر الوطن. ذهب الضحايا وتحول الثوار إلى زعماء ولم يتحقق شيء من شعارات الكفاح المسلح.
ولأن أمتنا متحمسة للغاية، فهي لن تجد الوقت لسماع استفهامات الموتى أمثالنا، او مراجعة تاريخ طويل من الاستبدادات الجهادية. لن نجد الوقت للاستذكار، نبدأ من الصفر دوما وكأنها تجربتنا الأولى، أو laquo;غزتناraquo; الأولى.
كتب الشاعر حسين عبداللطيف وهو يرقد في مستشفى البصرة قبل أيام، عن مسكين شد خيطا على إصبعه كي يتذكر أمراً... ولكنه laquo;في آخر محاولة للتذكّر... نسي الخيط المشدود على أصبعه، مشدودا على أصبعهraquo;... كم شهيد laquo;مشدود على أصابع المجاهدينraquo; نسيناه laquo;مشدودا على أصابعهمraquo; حتى حين تبدأ تلك الأنامل بتوقيع التسويات والاتفاقيات وتصافح أعداء الأمس، يصبحون زعماء وينسون بسهولة.
التعليقات