فيصل القاسم


من الخطأ الفادح تصوير الإعلام العربي من المحيط إلى الخليج على أنه كتلة صماء متجانسة، وكأنه من طينة واحدة. ليس هناك إعلام عربي واحد بأي حال من الأحوال رغم تجانس الأنظمة السياسية الحاكمة. وبالتالي من الإجحاف الشديد الزج بكل وسائل الإعلام العربية في سلة واحدة. الإعلام العربي درجات ودرجات، ومن غير المعقول أن نسميه عربياً لمجرد أنه ناطق بالعربية، ثم نحشره في نفس الزنزانة.
فهناك إعلام عربي متطور وجريء، وهناك إعلام عربي آخر ما زال يعيش في منتصف القرن الماضي.
لو أخذنا الإعلام المصري أولاً لوجدنا أنه سبق إعلام بعض الدول الأخرى بعقود وعقود على أقل تقدير.
صحيح أن ما يسمى بالصحافة المصرية القومية تشبه إلى حد ما مثيلاتها في بقية الدول العربية من حيث التطبيل والتزمير للنظام الحاكم وتجميله، لكن في مصر صحف مستقلة وشبه مستقلة رائعة للغاية في مهنيتها وجرأتها وتحررها، وهو ما يفتقده الكثير من الدول العربية الأخرى.
ولا شك أن الفضل يعود في آن معاً للنظام السياسي وللصحف ذاتها، فلولا تسامح النظام وقبوله بالنقد لما ظهرت صحف ذات قيمة مثل quot;الشروقquot; و quot;الدستورquot; والمصري اليومquot; وسواها. وهذه الصحف تقول في الحكومة والدولة ما لم يقله مالك في الخمر دون أدنى ملاحقة. صحيح أن الحبس في قضايا النشر ما زال معمولاً به في مصر، إلا أنه معطل عملياً، ناهيك عن أن أي صحفي مصري يتعرض للملاحقة القضائية يحظى بدعم هائل من منظمات المجتمع المدني المصرية، مما يجعل قضيته قضية عامة بامتياز. أضف إلى ذلك طبعاً أن زملاء المهنة يقيمون الدنيا ولا يقعدونها دفاعاً عن الصحفي الملاحق.
بينما عندما تقوم الأجهزة بالقبض على صحفي في دول عربية أخرى يخرس الصحفيون عن بكرة أبيهم.
أما نقابة الصحفيين فتصمت صمت القبور، هذا إذا لم تتبرأ من الصحفي العضو، وتتآمر عليه مع الحكومة، هذا إذا كان مسموحاً بوجود نقابة للصحفيين، ففي كثير من البلدان العربية ليس هناك أي جماعات تدافع عن الصحفيين، مما يجعلهم فريسة سهلة للدولة.
وطالما تعجبت من الحدة التي يتناول فيها بعض الصحفيين المصريين القيادة المصرية من الرئيس ونازل، لا بل إن بعضهم يتطاول على عائلته، مع ذلك لا نسمع أنه اختفى إلى غير رجعة.
قد يقول البعض إن صحفياً مصرياً تعرض لعقوبة السجن بسبب مقال عن صحة الرئيس، لكن هذه العقوبة تبقى أيضاً من فئة الخمس نجوم بالمقارنة مع دول عربية أخرى، فلو اقترف صحفي عربي آخر ما اقترفه إبراهيم عيسى لتم سجنه لسنوات وسنوات في زنزانة واحدة مع تجار المخدرات واللصوص والمجرمين الخطرين، ولما عرف ذووه بمكان جهنمه إلا ربما بعد عشر سنوات. ناهيك عن أنه عندما يخرج من السجن بألف مرض وعاهة لن يجد وظيفة حتى في مصلحة الصرف الصحي، لأنه سيكون عندها منبوذاً حتى يخطف الله روحه ويريحه من ذلك العذاب الذي تسبب به لنفسه من جراء توجيه كلمة عتاب للزعيم.
ولا ننس أن بعض الصحفيين في بعض الدول العربية ربما يذهب في ستين ألف داهية لانتقاده رئيس بلدية طرطوراً أو وزيراً.
وكم كنت أخشى على بعض الصحفيين المصريين الذين يشاركون في برامج تلفزيونية عربية عندما يعودون إلى مصر، فقد كان الكثيرون يظنون بأن أولئك الصحفيين سيذهبون لحماً مفروماً عند عودتهم، لكن عندما نتصل بهم بعد سويعات نجد أنهم في بيوتهم، لا بل إنهم يعاودون الظهور بعد أسابيع ليقولوا نفس الكلام وأخطر دون أدنى ملاحقة أو مضايقة. وليحمد الصحفيون المصريون المعارضون الله لأنه يتم تجريدهم من ملابسهم فقط، ففي البلدان الأخرى يتم تجريدهم من ملابسهم، وحريتهم، ومصدر رزقهم، وفي بعض الأحيان من روحهم إذ يخرج بعضهم من السجن ليلاقي ربه بعد مدة قصيرة جداً بفضل المعاملة الحضارية الرهيبة التي تلقوها أثناء تأدية الواجب الوطني في الزنازين المظلمة تحت الأرض.
وأكثر ما يدهشني أن بعض الصحفيين المصريين الذين يكتبون في صحف عربية صادرة في الخارج ينشرون مقالات عن الرئيس المصري وعائلته غاية في التهجم والنقد الجارح، لكنهم يزورون مصر بين الحين والآخر دون أدنى مضايقة.
قد يقول البعض إن أحدهم يوقفه في المطار لساعة أو أكثر، وهذا صحيح، لكن هذا العقاب يعتبر عقاباً سبع نجوم بالمقارنة مع ما يحصل لمن يعاتب رؤساء عرب آخرين في الصحف ومواقع الإنترنت، فما إن يعود إلى بلده حتى يحققوا معه لسنوات وسنوات بحيث يجعلونه يفكر مليار مرة قبل أن يفتح فمه. فبينما يفتح الصحفيون المصريون أفواههم (عمال على بطال) نقداً وشتماً، لا يستطيع نظراؤهم في بلدان عربية أخرى فتح أفواههم إلا عند طبيب الأسنان.
وحدث ولا حرج عن التلفزة المصرية غير الحكومية طبعاً، فالتلفزيون الرسمي محكوم بضوابط واعتبارات كبقية التلفزيونات الرسمية العربية. لكن الفضائيات المصرية المستقلة وشبه المستقلة متقدمة على الكثير من مثيلاتها في العالم العربي أيضاً بعقود وعقود. ففي كثير من الأحيان يمكن أن نطلق على التلفزيونات المصرية الخاصة كما على الصحف لقب quot;السلطة الرابعةquot; فعلاً، لأنها تقف بالمرصاد للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد وتعالجها بجرأة عز نظيرها. والدليل على نجاح تلك القنوات أن غالبية الشعب المصري تتابعها بشغف شديد لأنها تعالج قضاياه وهمومه اليومية باقتدار وتحرر. وتحظى بعض البرامج التلفزيونية في الفضائيات الخاصة بشعبية تنافس بها كبريات الفضائيات العربية العابرة للحدود ليس لأنها أفضل، بل لأنها تركز على القضايا الداخلية التي تهم الشعب المصري. فالقضايا الداخلية تبقى أكثر إثارة وجذباً للمواطن العربي من القضايا العامة. وبينما تحظى التلفزيونات المصرية المستقلة وشبه المستقلة وبرامجها بمتابعة عالية جداً، نجد أن مثيلاتها في الدول العربية الأخرى متعثرة لأنها نسخة معدلة وسخيفة من التلفزيون الرسمي.
لقد آن الأوان للتوقف عن وضع كل الإعلام العربي في سلة واحدة. وبدلاً من لعن الجميع، لا بأس في تسليط الضوء على النماذج المضيئة كالصحافة الجزائرية والمصرية والمغربية والخليجية والسودانية لاحقاً لعل الإعلام في الدول العربية الأخرى ينتفض من الحضيض خجلاً.