عبدالرحمن بن فؤاد الجارالله
إنَّ الخوض في بحر الفقه الزاخر صعب المسلك، بعيد المرمى، وهذا مما يُدركه كلُّ متفقهٍ ألمعيّ، وأقوال الفقهاء والمتفقهة في تقديرِ عسر أبواب الفقهِ ومباحثهِ، وصعوبتها متباينةٌ، يجدهُ المتأمل جلياً حين يقلبُ ناظريهِ في مدوناتهم، وهم وإن تباينت مواقفهم إلا أنَّ خلافهم لا يتجاوزُ أبواباً معروفةً.
وتباينُ المواقف ناتجٌ عن عدم تحديد المراد بالصعوبة، وإغفال الجوانب الذاتية حال التفقهِ، فمن لم يحج صعُب عليه فهم مسائل الباب، ومن ثمَّ يستصعب الباب، ولذا فقد رُوي عن ابن مسعود أنَّ من لم يتعلمه والفرائض والطلاق؛ فبم يفضل أهل البادية؟! ؛ وما ذاك إلا لصعوبته كما بان لابن مسعود .
والواجب على المتفقه عند تفقهه مراعاة أسباب صعوبة أبواب الفقه وعسرها، وهي تطبيقات الأبواب، وكثرة مسائلها، وتنوعها، وكذا مراعاة كثرة النصوص فيها، وتنوعها، وتعارضها في الظاهر، ووجود الناسخ منها والمنسوخ، كما يجبُ عليه ndash;أيضاً- ارتباط بعض مباحث الأبواب بعلمٍ آخر أجنبي عن الفقه، -كما في مباحثِ القسمة والحساب من كتاب الفرائض-، فتكون سبباً لصعوبته؛ ولذا نصَّ ابن تيمية على أنه من علم الخاصة كما في الاستقامة، فلربما لمْ يحسن المتفقه تلك المباحث، فلا يحسنُ الباب، والبابُ لا يقومُ إلا بتلك المباحث، ، فعلى المتفقه درْك ما له صلةٌ بالمبحث الفقهي.
والباب قد يكون يسيراً على المتفقهة من جهة تأصيله، وقلة النصوص الواردة فيه، وعدم تعارضها، كما في باب الحوالة ndash;مثلاً- فالأصلُ فيه حديث واحد فقط، غير أنَّ مسائلَ البابِ وتطبيقاته قد لا تدركُ، كما في أبواب السلم في البيوع -مثلاً-، وهذا جانبُ العسر فيه. والعكس كذلك.
وكثيرٌ من الفقهاء -كابن تيمية في الاستقامة، والنووي في المجموع يعدون أبواب الحيض والدماء أشكل الفقه؛ لكثرة فروعها، والنزاع المعلوم بين الفقهاء في مسائلها، فمسائل المتحيرة ndash;مثلاً- يمكنُ إفرادها في مصنفٍ مستقلٍ، وقل مثل ذلك في المبتدأة.
ويرى آخرون أنَّ أبواب البيوع من علم الخواص ndash;كابن عبد البر- ويذهبونَ إلى أنها أصعبُ الفقه؛ ولذا فقد ادَّعى بعض المالكية سبْقَهم فيه ، ومن صعوبتها ndash;أيضاً- أنْ نفى مالكٌ عن نفسه العلمَ بها .
ولا ريب أنَّ أبواب البيوع هي أصعبُ الفقه، وأشكله، خاصةً مع تعقُّد المعاملات المصرفية، ومشقَّة تصورها، وعسر تكييفها على مسائل البابِ.
وثمرة معرفة المتفقه صعوبة الباب وإشكاله، أنْ يرومَ معرفة سبب عسره وصعوبته، فإنْ كانت صعوبته لكثرةِ تطبيقاته -كأبواب البيوع-، لزِمَ قواعد البابِ، وضوابطه، وضبطَ النصوص الجامعة له، وخرَّج عليها المسائل، واجتهد لإدراك مقصود الشارع فيهِ؛ لأنَّ مسائل تلك الأبواب لا يمكن حصرهاndash;غالباً-، فيحاولُ تحقيق المقصد فيما يستجدُّ منها؛ ليسهُل عليه الإحاطة بمسائل الباب وفروعه.
والقواعد الجامعة في أبواب المعاملات أيسر منها في أبواب العبادات؛ لكثرة النصوص في العبادات، كما نصَّ عليه شيخ الإسلام في القواعد النورانية.
وإن كانت صعوبة الباب من جهة النصوص فيه، وتنوعها، وتعارضها في الظاهر، ووجود الناسخ منها والمنسوخ، -كما في بعض أبواب العبادات، كباب سجود السهو مثلاً-، لزِم المتفقه رأي المحدثين، واستأنس بأهل اللغة، وارتكز في اجتهادهِ وتقريراتهِ على أقوالهم، وضبط مسائله تقصداً؛ إذ مسائل تلك الأبواب في الغالب محصورةٌ، غيرُ متجددةٍ.
وعلى المتفقهِ تحصيل الفقه على مفيدٍ ناصح، متمكنٍ في أساليب التعليمِ، لا سيما حال إدراكه صعوبة الباب؛ علَّه أنْ يوضح مكنونهُ، ويبرزُ مصونهُ.










التعليقات