ياسر الزعاترة
هل كان نتنياهو مبالغا حين قال إن القدس مثل تل أبيب، أو عندما قال إنها عاصمتنا وليست مستوطنة، أو عندما قال إنه يتبع خطى أسلافه في موقفهم من قضية القدس؟
لقد كان صادقا كل الصدق، بل إن القدس بالنسبة إليه وإلى أسلافه أهم من تل أبيب، وهي ليست خاضعة للمساومة، والقدس التي نعنيها هنا هي القدس الشرقية، فقد تنازلت السلطة عمليا عن هذه الأخيرة.
لم يعد من العسير القول إن القدس الشرقية تحتل مكانة بالغة الأهمية والحساسية في الوعي الاستراتيجي وحتى العقائدي لقادة الدولة العبرية، وعموم الحركة الصهيونية في العالم أجمع، بخاصة في الدول الكبرى والغنية.
وقد جاء مسلسل الأحداث الأخير، بخاصة تدشين quot;كنيس الخرابquot; والإعلان عن مشاريع quot;كنسquot; أخرى، فضلا عن رفض أي تجميد للاستيطان في المدينة، جاء ليؤكد هذه النظرية التي نحن بصددها.
لا يتعلق الأمر هنا بمساحة عادية من الأرض، بل ببقعة تحتل مكانة مقدسة في الوعي اليهودي. ويكشف هذا الأمر مدى السخف الذي تعانيه نظرية تفريط العرب في فرص السلام، كما هي حال الحديث عن رفض قرار التقسيم؛ ذلك أن الصهاينة لم يكونوا ليقبلوا أي قرار يفرط في القدس، أعني المدينة القديمة، مهما منحهم من مساحات أخرى أو مزايا سياسية مثل السلام والأمن والتطبيع مع الدول العربية.
وإذا كانت نظرية بن غوريون تقوم على مقولة أنه quot;لا معنى لإسرائيل من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون الهيكلquot;، فإن الآخرين من آباء المشروع ورموزه quot;أسلاف نتنياهوquot; لم يفرطوا يوماً في هذه النظرية.
نذكّر هنا بأن ما أفشل مفاوضات كامب ديفيد صيف العام 2000، لم يكن قضايا المساحة والسيادة، أو حتى حق العودة؛ إذ كان بوسع ياسر عرفات التفاهم معهم عليها جميعا، وما أفشلها في واقع الحال هو قضية القدس الشرقية؛ حيث لم يوافق الإسرائيليون سوى على منح مناطق ضُمت إلى المدينة بعد الاحتلال، أو ما يُعرف بالأحياء العربية، أما ما يعرف بالمدينة القديمة التي يوجد فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة فلم يُبد الصهاينة أية مرونة حيالها، والأسوأ أنهم طالبوا بجزء من الشق العلوي للمسجد، فيما طالبوا بسيادة على الجزء السفلي، مع سيادة على كامل المدينة، ما يعني أن المطلوب هو الاحتفاظ بحق التخلص من المسجد، أو من أجزاء منه في حال تم العثور على بقايا الهيكل المزعوم، أو البحث عن مخرج للأمر من خلال ادعاء العثور على شيء منها.
لا يتعلق الأمر بالمسجد، والذي تواصلت الاعتداءات عليه منذ احتلال عام 67، وصار لليهود موطئ قدم فيه، بل بعموم المدينة القديمة التي تتعرض منذ ذلك التاريخ لعملية غزو بالغة البشاعة، وبالغة الدقة والتخطيط في آن؛ حيث لم تزل المدينة تخسر سكانها العرب لصالح اليهود بالتدريج، الأمر الذي لم يتوقف فصولا منذ ذلك الحين؛ حيث تولت كبر هذا الأمر مؤسسات ضخمة وعدد لا يحصى من أثرياء اليهود، إضافة إلى سياسات تهجير بشعة استهدفت المقدسيين الذين لا يتمكن أحدهم من بناء غرفة جديدة في بيته، بينما تزرع المستوطنات تباعا في المدينة.
لا تحتمل هذه السطور إجراء رصد للسياسات التي اتبعها المحتلون طوال عقود، ولا الأرقام المتعلقة بالسكان والبيوت، وهي عموما متاحة في مواقع الإنترنت لمن أراد الاستزادة، لكننا نشير إليها مجرد إشارة، ليس لإدانة الموقف العربي والفلسطيني الرسمي المتخاذل، بل لنتحدث عن هذه التسوية quot;الحلمquot; التي يطاردها قومنا من دون توقف، في حين يدرك العقلاء أنه من دون تنازل حقيقي في ملف القدس الشرقية، فإن أية حكومة إسرائيلية لن تجرؤ على توقيع تسوية مع الطرف الفلسطيني، مهما انطوت عليه من تنازلات، وما جرى بين سلطة رام الله وحكومة أولمرت دليل على ذلك، وهذا التعنت الصهيوني في رفض تجميد، مجرد تجميد الاستيطان في القدس، ولو بشكل مؤقت يؤكد ذلك أيضاً.
لو كان بوسع الصهاينة تقديم تنازل معقول في هذا الملف، لما استغرق التفاوض أسابيع بعد التنازلات التي أبدى الطرف الفلسطيني استعدادا لتقديمها، بما في ذلك الإبقاء على الكتل الاستيطانية في الضفة تحت بند تبادل الأراضي، وكذلك حال التنازل عن حق العودة والسيادة الكاملة.
ملف القدس والموقف الصهيوني العام منها يؤكد أن التسوية مع هذا العدو مستحيلة، اللهم إلا إذا تورط بعض قومنا في قبول ما لا يُقبل، ما يعني أن مشروع التفاوض لا يعدو أن يكون غطاءً للمزيد من الاستيطان والتهويد، مع شطب مشروع المقاومة الذي لا يصلح غيره في التعامل مع الاحتلال.
التعليقات