جميل الصيفي


هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه منذ ما يزيد على أربعة عقود من المفاوضات بل قل سياسة الاستجداء والتوسلات العربية أمام المجتمع الدولي لإنصافهم وإعادة حقوقهم التي اغتصبتها إسرائيل منذ العام 1967 وما قبلها وما بعدها، وكأن من لا يعرف أبعاد تلك القضية، يشك بأن إسرائيل دولة بها مئات الملايين من السكان وملايين الأميال المربعة من الأراضي وكنز لا يفنى من الموارد الطبيعية والنفط والطاقة، والحقيقة أن الأمر على العكس من ذلك تماما، وأن المعادلة المقلوبة أن دولة عدد سكانها أصغر من سكان العديد من المدن العربية ومساحتها أقل بكثير من مساحة أصغر دولة عربية تقريبا ولا يوجد بها من الموارد الطبيعية شيء يذكر، ولكن الفرق أن هؤلاء الناس -وأعني بهم الإسرائيليين- قد شمروا عن سواعدهم وصمموا على استغلال ما يمتلكون من طاقات علمية ودهاء سياسي ومكر مخابراتي من أجل استقطاب تعاطف العالم وخاصة الدول الغربية في أوروبا أولاً وفي أميركا لاحقاً وغمروهم بالمساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية بعد أن أحسن اليهود استثمار ما جرى لهم على يد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بل وضخموا الحدث آلاف المرات ليبدوا كمن كانوا ضحايا التمييز العنصري والديني والإثني بحقهم، ومن ثم استغلوا كل الطاقات السياسية والاقتصادية والأخلاقية وأقاموا بنية عسكرية وصناعية بل وقل اقتصادية لتفاجئ العالم قبل العرب بانتصارها على العرب في معظم الحروب إن لم نقل كلها، في حين أن العرب كانوا وما زالوا مشغولين بنزاعاتهم وخلافاتهم ومؤامراتهم ضد بعضهم البعض وإن كانوا يجتمعون ويتصافحون ويتعانقون ولسان حالهم يقول تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
أقول هذا ونحن في مستهل جولة جديدة من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين أطلق عليها المفاوضات غير المباشرة بعد ما يزيد على 15 عاما من المفاوضات المباشرة العقيمة، فهل يا ترى ستنجح هذه المفاوضات فيما فشلت فيه المفاوضات السابقة؟
قد يرد البعض بالقول إن هناك سابقة في المفاوضات العربية الإسرائيلية حينما استعادت مصر سيناء من إسرائيل، ولكن الثمن كان باهظا جدا وهو ما كانت إسرائيل وقوى الضغط الصهيوني تحاول تحقيقه منذ العام 1948 وهو إخراج مصر كأكبر دولة عربية من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي والانفراد بالفلسطينيين بشكل خاص حيث يكمن الهدف الرئيسي لليهود والصهيونية في بسط سيطرتهم المطلقة على فلسطين التوراتية كما يسمونها، والقدس في قلبها باعتبار ذلك الهدف الأسمى لليهود على المدى البعيد علما أن هناك من ينادي حتى بطرد الفلسطينيين من أراضي فلسطين وإحلال اليهود من كافة بقاع العالم محلهم وهو ما وجد تعبيرا له في بناء المستوطنات اليهودية بجانب كل مدينة وقرية فلسطينية تقريباً وانتهاج سياسة تكدير وتنغيص حياة الفلسطينيين لدفعهم إلى الهجرة ومغادرة بلادهم طوعا أو كرها.
تعودنا كلما جد جديد من خطط غربية أو إسرائيلية لإشعال نار الفتن والحروب أن يخرجوا علينا بمبادرات من أجل ما يزعمونه زورا وبهتانا أنها من أجل الحل العادل للقضية الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وهنا وفي هذا اليوم خرج علينا نتنياهو بتصريحه الأخير بمناسبة ضم القدس الشرقية إلى السيادة الإسرائيلية جاء فيه قوله إن القدس ترتبط بالشعب اليهودي أكثر من أي شعب آخر، ولمن لا يستطيع الرؤية من خلال الغربال نقول له إن التلميح أوضح من التصريح وأن القدس ستبقى بيد إسرائيل على حد ما يفهم من تصريحات نتنياهو في هذا اليوم.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقع فيها القدس وبعض الأراضي العربية والإسلامية في قبضة محتلين، فقبل اليهود كان هناك الاحتلال الروماني والصليبي والفارسي، فهل تم تحرير تلك الأراضي عن طريق المفاوضات، وهل انسحب هؤلاء من الأراضي العربية والقدس على وجه الخصوص بسبب المنطق والعدل وإدراكهم أن هذه أراض تبعد عنهم آلاف الأميال؟ لا وألف كلا فقد كان السيف هو الحكم، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فنحن لا نعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة يأخذ كل ذي حق حقه ولا يظلم نقيراً، بل نحن نعيش في عالم وشرعة الغاب والقول الفصل فيه للقوة، فهل عجزت الأرحام العربية والإسلامية عن إنجاب خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، أم هل نضبت مصادر القوة عند العرب، لا وألف لا، لكن المشكلة تكمن في جنوح حكوماتنا إلى الرضوخ والخنوع والاستسلام من أجل الحفاظ على كراسي الزعماء وليذهب الجميع إلى الجحيم طالما أن الكرسي بخير ولا خطر يتهددها.
كم تمنيت لو أننا نعيش في المدينة الفاضلة ونحصل على حقوقنا من منطلق العدل ومنطق الإنصاف، ولكننا نعيش في زمن وعصر قانون القوة وليس قوة القانون، وإلى أولئك الذين يراهنون على المفاوضات فقط أقول لهم لا تفرطوا في التفاؤل، فمعطيات المعادلة لا تبشر بالخير، فهناك طرف ضعيف برغم أسباب القوة المتوفرة لديه وهو الطرف العربي وهناك طرف قوي برغم أنه لا يمتلك ما تمتلكه البلاد العربية من مقومات القوة، ولكنه يحس استغلال ما يتوفر لديه، وأشهد أن قوته في ضعفنا وليس في قوته، وما لم تتغير المعادلة سنبقى ندور في حلقة مفرغة من المفاوضات العقيمة العبثية وهو ما أتقنه اليهود عبر التاريخ حتى في مفاوضاتهم مع أنبيائهم.
ليس مهماً عدد القرارات الدولية التي تعترف بحقوقنا ولا القانون الدولي ولا الشرعية الدولية بقدر أن نكون مستعدين للدفاع عن أنفسنا واستعادة الحق، وقديماً قيل إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وهذا ليس معناه بالضرورة استخدام القوة وشن الحروب، ولكن يكفي أن يدرك الطرف الآخر بأننا جادون في بناء قدراتنا بكافة أشكالها للذود عن حياضنا واسترداد حقوقنا، وكما قيل فإن سياج الحق هو ناب ومخالب صاحبه والتي كثيرا ما كانت كفيلة بإبعاد الطامعين والغاصبين، والتاريخ خير شاهد على ذلك، فلم تحرر بلاد العرب عن طريق انقسام العرب بين قيصر وكسرى ولا بمفاوضة الصليبيين بالمنطق والحكمة والموعظة الحسنة، فهل يدرك ذلك من وضعوا الفلسطينيين في هذا المأزق الصعب وراهنوا على تحقيق المعجزات من قبل طرف لا حول له ولا قوة؟