عبدالله ناصر العتيبي


جولة الملك عبدالله التي انتهت قبل يومين، يمكن وصفها بقارب النجاة الذي لا يتكرر مروره كثيراً في نهر المنطقة. فإذا ما افترضنا أن الأطراف العربية المتنازعة كافة تريد الوصول إلى نقطة تسوية على البر، لكنها تختلف في تحديد طرق الوصول إلى هذه التسوية، فإن زيارة الملك السعودي الأخيرة لدول المواجهة، ممانعها ومعتدلها، وهو الرجل المُتفق عليه من الفرقاء كافة، تفتح الطريق (البحري والبري) ليس للمصالحة البينية فحسب، وإنما للنظر فيما وراء الحسابات قصيرة النظر.

التوتر على الخريطة العربية الممتد من موريتانيا غرباً وحتى (الطنبات الثلاث) في الخليج العربي شرقاً، يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى رؤية واحدة تتوزع في ما يليها إلى رؤى محلية موغلة في التفاصيل. الرأي الواحد المنطوي على آلاف التفريعات على طريقة (وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر) هو ما يحتاج إليه العرب في الوقت الراهن. الرأي الأساس الموَّحد الذي ينطلق من رؤية واسعة هو القادر الآن على وضع الخلافات والاختلافات الكثيرة والمتنوعة في قوالب حلول عدة مصنوعة من مادة واحدة. لكن ما هي الرؤية، وما هو الرأي الجامع المانع وما هي مادة الحلول الواحدة؟!

في شتاء العام الماضي أعلن الملك عبدالله عن مشروعه الجديد من خلال قمة الكويت، والذي احتوى على أربع رسائل مهمة:

الأولى ndash; إنهاء الخلافات العربية كافة. ما هو متعلق بالسعودية وما هو متعلق بغيرها. وعدم السماح للمتاجرين بقضايانا باستغلال أوضاعنا المتردية للدخول إلى القلب العربي، ومن ثم توجيه الدفة العربية من الداخل.

الثانية ndash; تسميته لقادة الحرب في إسرائيل بالعصابة المجرمة.

الثالثة ndash; أمام إسرائيل خياران لا ثالث لهما: إما السلام الكامل غير المنقوص، وإما الحرب الشاملة.

الرابعة ndash; مبادرة السلام العربية لن تبقى على طاولة المفاوضات طويلاً إذا ما اصطدمت بالتعنت الإسرائيلي أو إملاء الشروط غير المنطقية.

هذه الرسائل الأربع؛ ساعدت الملك بعد أن صفّى خلافات السعودية مع شقيقاتها في أن يبدأ رسم السياسة الكلية التي تتناسب مع جزئيات الأوضاع العربية، اعتماداً على مبادرته التي أطلقها في بيروت قبل ثمانية أعوام. أدرك الملك عبدالله أن الحلول المنفردة لا تستطيع أن تتحمل كثيراً لضغط الواقع السياسي على الأرض، فكما أن هناك سبباً واحداً لنقض الاتفاق الموقع بين فتح وحماس، فهناك عشرات الأسباب التي تجعل من اتفاقات الفرقاء اللبنانيين حبراً على ورق وكلاماً أثيرياً لا يحترمه ويحتفظ به إلا وسائل التخزين في المؤسسات الإعلامية!.

ربط القضايا العربية في منظومة واحدة من وجهة نظر السعودية لا يساعد على حلها فقط، وإنما يفوّت أيضاً الفرصة على أعداء الأمة والمتاجرين بقضاياها على حد سواء الذين ظلوا طوال سنوات عدة يلعبون على فصل المسارات العربية عن بعضها أملاً في كسب الوقت والمغنم. إضافة إلى أن إسرائيل عملت طوال ثلاثين عاماً على محاولة فصل المسارات العربية لإضعافها وتحييدها، فقد فشلت كل المبادرات العربية خلال السنوات القليلة الماضية في لمّ الشمل بسبب ارتباط بعض الأطراف العربية بلاعبين أجانب يجدون في تنامي الخلافات العربية وتكاثرها أرضاً خصبة لتمرير إما أجندات (سيادينية) وإما محاولات عيش لاشرعي في عالم ينحى نحو تقنين العلاقات الدولية وتجريم من يخدشها، وإما لتحقيق انتصارات بعيدة جداً عن الملعب العربي!.

الموقف السعودي الذي تبناه الملك أخيراً تنبّه إلى مسألة التشابك غير العربي مع القضايا العربية، فعمل أولاً على تحييد القضايا العربية وعزلها في منطقتها ومن ثم التعامل معها على أساس أنها كل يتجزأ إلى تفاصيل صغيرة. فالخط الفلسطيني مرتبط بالخط السوري واللبناني والأردني في مواجهة إسرائيل، والخط السوري مرتبط بالخط اللبناني والفلسطيني، والخط اللبناني مرتبط بالسوريين والفلسطينيين على حد سواء، ومتى ما تم حل أي تفصيل فإنه يسقط كحجر الدومينو على بقية التفاصيل، تلك المعزولة عن الذين يتوقعون حرباً (تجلب سلماً لهم) على دولتين عربيتين أو أولئك الذين فشلوا في أن يحدّوا من التحركات السعودية الأخيرة من خلال اتهامها بدعم المتطرفين المسلمين في البلقان، فاتجهوا إلى التشويش على الدور السعودي بإدعاء سفر رئيس الموساد الإسرائيلي مائير داغان إلى الرياض والتباحث مع مسؤولين سعوديين في مسائل أمنية وهو ما نفته الرياض واعتبرته جزءاً من الحملة ضدها نتيجة لمواقفها تجاه الحقوق العربية.

تفجير الوضع في إيران، داخلياً أو خارجياً، لن يفجر بالضرورة الوضع في لبنان أو سوريا أو غزة، ونجاحات إسرائيل في المفاوضات المنفردة خلال السنوات الماضية وصلت إلى منطقة مسدودة وصار على حكومتها أن تعيد سياسة المفاوضات بما يتفق مع قوة الطرف المفاوض، ومصالح الفرقاء العرب تتجه نحو التكامل لا التنافس. هكذا يريد الملك عبدالله، وهكذا تستقيم الحال العربية وهكذا يمر القارب الأخير في نهر الخلافات العربية.

كل الفرقاء العرب يتفقون على عبدالله، ويعرفون أنه صادق في مسعاه، ويؤمنون أن لا ينشد إلا إصلاحا، وبالتالي فقد قُطعت نصف المسافة نحو تصفية النفوس، لكن بقي النصف الآخر والذي يتعلق ببذل الجهد للبقاء تحت ظل المظلة الكبرى التي زرعها عبدالله بن عبدالعزيز في أرض الشام، فهل يعي الفرقاء حرج المرحلة؟

اتسعت رؤية عبدالله بن عبدالعزيز فاحتوت الفرقاء المتخاصمين، لكنها لم تحتو السيد عمرو موسى أمين جامعة الدول العربية الذي تعمد الخروج من كادر الصورة، واكتفى بالمراقبة وفضل الركون إلى الصمت كعادته في كل الحالات التي لا تسمح له بإظهار نجوميته وكفاءته الكلامية!.

غاب السيد موسى عن الحدث وغيّب جامعته وبالتالي أفقدها فرصة (أخيرة هي الأخرى) في ترتيب بيتها الداخلي، وتغيير طريقة تعاملها مع القضايا العربية. اختار لها أن تبقى بعيدة عن الحلول، وهو الحريص دائماً على إدخالها دائرة الأزمات من خلال تصريحاته غير المحسوبة