عبدالوهاب بدرخان

كان لافتاً ذلك السجال القصير بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان. إذ استنكر الأول تدخل الثاني في شؤون مصر. كان البابا بنيديكت السادس عشر دعا قادة العالم الى حماية المسيحيين الأقباط، وردّ الشيخ أحمد الطيب متسائلاً لماذا لم يطالب البابا بحماية المسلمين عندما تعرّضوا لأعمال قتل في العراق. ثم ردّ متحدث بـاسم البابا مستهجناً وموضحاً ان القلق على الأقليات المسيحية أو التضامن معها لا يـعني تبريراً أو تقليلاً من شأن العنف الذي يستهدف أبناء الديانات الأخرى، فضلاً عن أنه لا يعني laquo;تدخلاًraquo;.

من الواضح أن ثمة تشيخاً في اللهجتين، الأزهرية خصوصاً، اكثر من الفاتيكانية، لعله يعكس أولاً الانفعال بعد مذبحة كنيسة القديسين في الإسكندرية، وثانياً اختلاف النظرتين الى وقع الحدث، وثالثاً تباين المفاهيم والمواقف والحساسيات حيال العنف الإرهابي الذي لا ينفك ينسب الى الإسلام. ولما كانت الكنيسة القبطية لا تتبع الفاتيكان، وليس وارداً ان تطلب حماية خارجية لرعاياها، فإن شيخ الأزهر اعتبر ان البابا تجاوز حدوده ماسّاً السيادة المصرية. أما البابا، فالأرجح أنه لم يفطن الى laquo;مسألة التدخلraquo;، إلا ان الفاتيكان يعيش هذه الأيام على تقارير يومية ترده عن تدهور معنويات مسيحيي الشرق. ومنذ انتهاء أعمال السينودس الذي خصص لاستعراض أوضاعهم، أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ساءت أحوال مسيحيي العراق على نحو مروع، وها هم أقباط مصر يلحقون بالركب، وليس معلوماً على من سيأتي الدور بعدهم. لم تشأ القاهرة الدخول في إشكال ديبلوماسي - سياسي، لذا أبقت السجال في إطار المؤسستين الدينيتين. فعندما قال البابا ان laquo;الأقوال لا تكفي، بل يتعين على مسؤولي الأمم إبداء التزام عملي وثابتraquo;، قفز الى الأذهان احتمال التفكير في تدويل أمن مسيحيي الشرق وأمانهم. وهذا laquo;غير مقبولraquo; إطلاقاً بالنسبة الى مصر، حيث الدولة تظل عماد البلد وعموده الفقري، ولا أحد يشك في قدرتها على حماية مواطنيها كافة. وانطلاقاً من ذلك، تضافرت الأصوات الرزينة والمتعقلة داخل مصر للدعوة الى تفعيل قدرة الدولة هذه، لا أمنياً فحسب وإنما سياسياً وقانونياً أيضاً.

أما التدويل، فلم يكن يُتصوَّر أن توجد منظومة أمنية دولية أفضل من تلك التي وجدت في العراق، فلا صمت المسيحيين ولا المسلمين، وبالكاد توصلت الى حماية جنودها. بل على العكس شكل حضورها مرجلاً لتأجيج التحارب المذهبي، حتى انها بدت كمن استدعى تنظيم laquo;القاعدةraquo; استدعاءً الى العراق لاستكمال الحرب معه. وفي غمرة بحثها عمن يحل مشاكل الاحتلال، لم تكترث تلك المنظومة الأميركية الى أي أقليات في العراق، وبالأخص للمسيحيين. بل لعلها اهتمت أكثر بأمن جماعة laquo;مجاهدين خلقraquo; الإيرانية المعارضة في معسكر laquo;أشرفraquo; مما اهتمت بأمن المسيحيين الذين لا يشكلون في نظر واشنطن مكوّناً عراقياً يمكن الاعتماد عليه لوظيفة معينة في الاستراتيجية الأميركية العامة.

كانت في كلام شيخ الأزهر لمحة عاجلة وثاقبة، هو لم يقلها لكن يمكن استقراؤها، مفادها أنه عندما يتقتل المسلمون بعضاً ببعض فإن الغرب لا يبالي، أما عندما يستهدف المسيحيون فإن الأمر يستدعي laquo;التدخلraquo;. واقع الأمر أنه عندما تكون الدولة ضعيفة وعاجزة، أو في صدد بناء ذاتها كما في العراق، فإن ارهابيي laquo;القاعدةraquo; يفرضون الأجندة، فخلال أقل من شهرين على التهديد الذي أطلقوه بلغت أعداد المسيحيين المغادرين أضعاف من غادروا خلال الأعوام السبعة الماضية. وهذا لا يعني في مختلف الأحوال سوى ان هجرتهم حانت في إطار مخطط متوقع. صحيح ان ما يقرب من أربعة ملايين عراقي تهجروا قبلهم، ومعظمهم من المسلمين، إلا ان الانطباع السائد هو ان المسيحيين، خلافاً للآخرين، لن يعودوا، لأن تركيبة البلد تتغير ولا تحتفظ لهم بمكانهم الذي لم يعرفوا سواه منذ مئات السنين، فإما ان laquo;القاعدةraquo; باتت متمكنة الى الحد الذي تفرض فيه تغييراً ديموغرافياً تاريخياً، على رغم الدولة العراقية وسائر دول الاحتلال والتدخل، وإما أن laquo;القاعدةraquo; تركت تنفذ ما استهدفته تلك الدول ضمناً، وبالتالي التقمت جميعاً موضوعياً بما فيها laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo;.

من المؤكد أن الحال تختل جذرياً في مصر، فلا أحد في الشرق أو في الغرب يراهن على جهة أخرى غير الدولة. صحيح انها استطاعت ان تهزم الإرهاب في التسعينات، وستتمكن من هزمه مجدداً، إلا ان التديّن المؤدلج انسلّ في شرايين المجتمع ولم تستطع البنى القانونية والحقوقية أن تحدّ من غلوّه. ثم ان أهل السياسة، حكوميين ومعارضين، انغمسوا في تطاحن مرير لم يتنهبوا في مساره العقيم الى التهرؤ والتآكل اللذين أصابا المواطنة وروحيتها. لم يعد أحد يرتهب الآن الاعتراف بوجود ما يسمى laquo;احتقاناً طائفياًraquo;. ومرة أخرى، كما في الثمانينات مع بدايات جماعات التطرف، تلتفت الدولة ناحية الأزهر الذي أطلق لتوّه فكرة إنشاء لجنة سماها laquo;بيت العائلة المصريةraquo;، لتضم ممثلين للأزهر والكنيسة وتدرس laquo;حلولاً لإزالة التوترات وترفع الى ولي الأمرraquo;. يُخشى أن تُحمَّل هذه اللجنة أكثر من طاقتها، لكن في الأثناء قد يتطلب الوضع مبادرات عاجلة من الدولة، وبالأخص من laquo;مجلس الشعبraquo;: حيث توجد تشريعات مؤجلة منذ زمن.

لا شك في أن الوحدة الوطنية تمثل عنصراً أساسياً مساعداً، لكن الاحتقان الطائفي عندما يتحول وباء يمكن أن يشلّها ويعطلها. إذ ينبغي إدراك ان الإرهاب لا يخطئ فعلاً بتضامن دولي أو إقليمي بمكافحته، بل ان هناك من طوّعه ليكون أداة في أنشطته. فعندما نقرأ الكلام المنقول عن لسان رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عاموس يادلين، إثر تقاعده قبل نحو شهرين، لا تعود laquo;نظرية المؤامرةraquo; مجرد احتمال بل تصبح تبليغاً مباشراً. إذ قال: laquo;أما في مصر، الملعب الأكبر لنشاطنا (...) فنجحنا في تصعيد التوتر الطائفي والاجتماعي لتوليد بنية متصارعة دائماًraquo;. بل انه أكد مسبقاً في شأن لبنان متابعة العمل بالمخطط المرسوم laquo;خصوصاً بعد صدور القرار الاتهامي الدولي الذي سيحمّل حزب الله مسؤولية اغتيال رفيق الحريري، للانطلاق الى مرحلة طال انتظارها على الساحة اللبنانية، قبل التوجه الى سورية، المحطة النهائية المطلوبةraquo;.

هذا يعيدنا الى واقع تآمري مكشوف، قد يكون مفهوماً في حال الصراع الإسرائيلي - الإيراني المفروض على لبنان، لكنه في حال السلام مع مصر ينتمي الى عقل تخريبي مريض بمقدار ما يشي بأن إسرائيل لن تدرك وضعاً آمناً إطلاقاً. وإذا كانت laquo;القاعدةraquo; باتت تطبق الآن أهدافاً تمنتها إسرائيل، فلا شيء يضمن عدم اللجوء الى خدماتها في لبنان، خصوصاً إذا نجحت المساعي السعودية - السورية في لجم الفتنة المذهبية. فعندئذ قد تكون الفتن البديلة بالاعتماد على laquo;القاعدةraquo; التي تسعى بدورها الى تلغيم بنياتها المتصارعة الى ما لا نهاية.