رضوان السيد

عندما بدأ الأسرى الفلسطينيون يخرجون من المعتقلات الإسرائيلية، كان محمود الزهّار ما يزال يخطب متوقّعاً غَدرَ الإسرائيليين، وعدمَ إنفاذ الاتفاق الذي عقدته quot;حماسquot; مع إسرائيل بواسطة مصر، لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، في مقابل إطلاق سراح أكثر من ألف أَسير فلسطيني! من حُسْن الحظَ إذن أنّ تخمين الزهّار ما كان في محلِّه، وأنّ فلسطينيين كثيرين عانقوا نسائم الحرية مع أهلهم وذويهم.

لماذا وفّى الإسرائيليون بوعودهم أخيراً، ولماذا استطاع الحماسيون تحقيق هذا الإنجاز الذي كانوا على استعدادٍ للقبول بنصفه قبل عامٍ ونيِّف؟! قبل عام، بل ومنذ عام 2007 عندما انفصلت quot;حماسquot; بغزّة ما كان الإسرائيليون على استعدادٍ للتنازُل بأيّ قدْر، كما كان الحماسيون في الحقيقة غير قادرين على إجراء صفقةٍ مع إسرائيل مهما تنازلت! فالإسرائيليون اتخذوا من أسْر شاليط سبباً لحصار غزة، والاستمرار في شنّ الحروب والقصف المدفعي والقصف بالطائرات يوميا؛ وبعُذرين اثنين: أسْر شاليط كما ذكرْنا، وتهريب quot;حماسquot; السلاح إلى غزة عبر الأنفاق على الحدود مع مصر. بل إنَّ إسرائيل زادت على ذلك عندما وضعت انفصال quot;حماسquot; بغزة على طاولة التفاوُض مع أبو مازن: ماذا لو توصلْنا إلى اتفاقٍ معكم، هل تأمنون quot;حماسquot; على إنفاذه؟ وهل أنتم الشريك الصالح في عملية السلام، ما دمتم لا تسيطرون على الشعب الفلسطيني كلّه، وليس بينكم وبين quot;حماسquot; توافُق الحدّ الأدنى على شروط السلام، ومن ضمنها الاعتراف بإسرائيل؟ واستطاع عباس النفاذ بجلده من مفاوضات الوضْع النهائي عبر إيقاف التفاوُض بسبب استمرار الاستيطان. لكنْ كان واضحاً أنّ أوضاع السلطة الفلسطينية تزدادُ ضعفاً لأنه اجتمع عليها الإسرائيليون والأميركيون والإيرانيون والسوريون وquot;حماسquot; والتنظيمات الأُخرى! وبدأ التفاوُض بين quot;حماسquot; وإسرائيل بوساطتين مصرية وألمانية عام 2008 لإطلاق سراح شاليط. وما كان ممكناً أن ينجح التفاوُض ولو أراد الطرفان: الإسرائيليون لا يوافقون للإحساس بالتفوق، ولكي لا يسمحوا لـquot;حماسquot; بالحصول على أيّ إنجاز أو انتصار. والحماسيون لا يستطيعون الموافقة على إطلاق شاليط وبأيِّ مُقابل، لأنهم تابعون لإيران وسوريا، والأخيرتان تريدان استمرار المواجهة تجاذُباً مع الأميركيين، وضغطاً على مصر ومنْعاً لها من تحقيق أي نجاح. ذلك أنّ quot;حماسquot; في غزّة ما كان المتصوَّر لها أن تكونَ شوكةً في خاصرة إسرائيل، بقدْر ما كان عليها إزعاج عباس وإضعاف شرعيته، وأن تُصبح عاراً وشناراً واستعصاءً على مصر!


وجاءت الحربُ على غزّة، والتي أثارتها quot;حماسquot; بصواريخها على المستوطنات أواخر 2008، لترفع من الحائط الأصمّ للنزاع ليس على فلسطين فقط؛ بل وعلى المنطقة العربية.
وبدأت الثورات الشعبية العربية في مطلع 2011، فانكفأ الجميع أمام هَولها. سقط النظام المصري بعد التونسي، ونشبت انتفاضاتٌ في ليبيا واليمن وسوريا. وبعد أن كان الإيرانيون يستعدُّون لاستخدام أوراقهم وبؤرهم على مشارف الانسحاب الأميركي من العراق، صار عليهم التفكير في كيفية الدفاع عن تلك البؤر التي اصطنعوها في العراق ولبنان وسوريا واليمن. وفقد الإسرائيليون سكون مصر وتركيا أو دعمهما، وأُحرجت quot;حماسquot; واضطُرّت لتوقيع اتفاق المصالحة مع quot;فتحquot; في القاهرة الثورية الجديدة. ومضى عباس إلى الأُمم المتحدة طالباً الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلّة بدون تفاوُضٍ مع إسرائيل. وإسرائيل المعزولة في المنطقة، صارت تُريد أيَّ إنجازٍ مهما بلغ ثمنُه، فقبلت صفقة إطلاق الأسرى الفلسطينيين الألف مقابل شاليط. أمّا quot;حماسquot; التي تقدم عليها عباس وأوشك أن يخنقها وسط الجمهور الفلسطيني والعربي، فأرادت تحقيق أي إنجاز، وإظهار الاستقلالية عن إيران وسوريا، فقبلت هذه المرة الوساطة المصرية والحلَّ المصريَّ. وكان مشعل قد أَظهر جرأة في مؤتمرٍ بطهران لدعم المقاومة، عندما تحدث عن شجاعة عباس، وعن القرار الوطني الفلسطيني المستقلّ! وهكذا كانت الثورات العربية الجماهيرية هي التي دفعت إسرائيل وquot;حماسquot;، ولكلٍ أسبابه، لإنجاز صفقة شاليط مقابل الأسرى الفلسطينيين الألف.

لقد حررت الثورات العربية القرار الفلسطيني من أَسْر الإسرائيليين والأميركيين وإيران وسوريا. فما عاد عباس معتمداً على قرارات الرُباعية، ولا عاد تابعاً للمساعدات الأميركية للسلطة. بل صار معتمداً على الدعم الفلسطيني والعربي، لذلك استطاع اتخاذ قرار التوجُّه للأُمم المتحدة، والضغط على المتشددين في quot;فتحquot; وquot;حماسquot; والتوجُّه لإنجاز المصالحة التي طال انتظارُها. وتجاوز الحماسيون الاعتراض الإيراني والسوري، وقرروا الاستمرار في اتفاقية المصالحة، وإنجاز صفقة الأسرى، لأنّ تلك هي رغبة الشعب الفلسطيني. وإذا استمرّ الزخم الشعبي الفلسطيني والعربي، فليس بعيداً أن تمضيَ quot;حماسquot; في مصالحة quot;فتحquot;، إنما سيكونُ عليها أن تُغادر سوريا بأسرع ما يمكن. وإذا تمكنت من الخروج نهائياً من الأَسْر الإيراني والسوري، فليس بعيداً أن تُشارك quot;فتحquot; والمنظمات الأُخرى في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني باتجاه الدولة والاستقلال.

ولكي يكونَ واضحاً ما نقصِدُهُ من أنّ الحراك الشعبيَّ العربيَّ هو الذي حرَّر الطرفين: quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، يكون علينا أن نتذكَّر أنه بمقتضى أوسلو وحلّ الدولتين؛ فإنّ الوصول إلى ذلك الحلّ لا يكون إلاّ بالتفاوُض. ومنذ عام 2005 وما بعده جرت عشرات الجولات المباشرة أو بالواسطة، وما حصل تقدمٌ من أيّ نوع. وما كان بوسع عباس إلاّ أن يستمر في التفاوُض ولو لم يحصل على شيء. وما استطاع التمرد على التفاوُض العَبَثي (التفاوض من أجل التفاوض!) إلاّ بشكلٍ مؤقت، وبحجة استمرار الاستيطان وتفاقُمه. وقد أنذرت لجنة المتابعة التي شكّلتْها الجامعة العربية قبل عام، بأنها ستتجه مع منظمة التحرير والسلطة إلى الأُمم المتحدة للمطالبة بإقامة الدولة بدون تفاوُض. لكن ما كان ممكناً إنفاذ هذا التهديد لولا التغييرات الزلزاليةُ بالمنطقة والتي قادها الجمهور العربي الساعي للحرية والكرامة والعدالة، والتي جعلت الولايات المتحدة تتردد كثيراً في الوقوف ضد السلطة الساعية للدولة ولو بدون تفاوُض! وما كان للسلطة أن تتجرأ على تجاوُز الخطوط الحُمْر الدولية، لو لا الإجماعُ العربي الجماهيري والرسمي على تحقيق الدولة، مهما كلّف الأمر. وقد كان الأمر أصعَب على quot;حماسquot;. فالإيرانيون الذين يتقلَّصُ نفوذُهُم ليسوا في وارد التنازُل عن الورقة الفلسطينية الآن، وهم يريدون للتوتُّر أن يستمرّ في سياق مواجهة التحديات الجديدة التي شكّلتْها الثورات العربية. وهذا الأمر ينطبقُ على النظام السوري الذي يعتبر أنّ شعبه وأنّ العرب يتآمرون عليه، وأن على quot;حماسquot; أن تقف معه ضدَّ شعبه وضدَّ العرب الذين يقفون مع المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، ومع ذهاب السلطة إلى الأُمم المتحدة. ولذا كان على quot;حماسquot; حتى لا ينتهي دورُها، أن تستجيب لرغبات الشعب الفلسطيني، وأن تُقْنع بالمصالحة وبصفقة الأسرى، الإيرانيين والسوريين أو تتجاوزهم. والإيرانيون (عبر حزب الله) يتظاهرون الآن بأنهم يؤيّدون صفقة التبادُل (وقد أنجز مثلَها الحزبُ مراراً مع إسرائيل)، إنما من المشكوك فيه أن يؤيّدوا المصالحة أو يسكتوا عن ذهاب عباس للأُمم المتحدة!

وبذلك فإنّ صفقة الأسرى إنما تمت ببركات الحراك الشعبي الفلسطيني والعربي. وسيكون على القيادات الفلسطينية أن تمضي مُجمِعةً وبترحيبٍ عربي باتجاه إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، ولن يكونَ ذلك إلاّ بالمصالحة الفلسطينية التي تُحرّر quot;حماسquot; من إيران وسوريا، وتُنتج زمناً فلسطينياً جديداً، يتساوق مع الزمن العربي الجديد.