خيري منصور

عندما أصدر د . مصطفى حجازي كتابه الشهير سايكولوجيا الإنسان المقهور قبل أعوام وبالفرنسية أولاً، وضع أصبعه على الجرح، وهو المسكوت عنه عربياً رغم نزفه السري لعقود، فالحرمان عندما يستوطن ويستبد ويوشك أن يتحول إلى طبيعة ثانية يصبح إعداماً نفسياً ومعنوياً، لأن من يدمنه لفرط الخضوع يتأقلم معه، وقد يتلذذ بمحاصيله المرة ويستمرئها، وهذا ما يسمى في علم النفس الماسوشية، وهو مصطلح مضاد للسادية أو تعذيب الآخرين، رغم أن فك الاشتباك بين هاتين الحالتين الشاذتين ليس ممكناً، لأنهما تتبادلان الأدوار داخل الذات المقهورة أو الضحية التي أفقدها الرعب بلاغتها والقوة الكامنة في عمق ضعفها وأنينها .

ومن آفات القهر عندما يستوطن الذات ما يسميه د . حجازي الاختزال، بحيث تقتصر الظواهر وحتى الكائنات على بعد واحد من أبعادها هو البعد العضوي أو مستوى الضرورة الذي هو دون الحرية بمراحل .

المرأة هي النموذج لهذا الاختزال حسب سايكولوجيا القهر في العالم المنكوب بالثالوث الأسود، والذي تتشكل أضلاعه من الجهل والمرض والفقر، فهي -كما يقول د . حجازي- تختزل من إنسان إلى أنثى ومن أنثى إلى وظيفة، لهذا يخسرها المجتمع الذي قام بحذفها وهو لا يدرك أنه ينتحر معنوياً ويتخلى عن نصفه .

ولو شئنا البحث عن تجليات الاختزال لدى المقهورين لوجدنا أنه يمتد ليشمل كل ظواهر الحياة، فالأوطان يجري اختزالها إلى بيوت أو حارات أو طوائف، والصراعات حتى لو كانت وجودية وذات جذر تاريخي تختزل إلى بعد واحد هو البعد المسلح رغم أن الثقافة ومجمل الاحتياطيات الاستراتيجية لدى أطراف الصراع لها الدور الحاسم في نهاية المطاف .

والديمقراطية أيضاً تختزل إلى علاقة بين حاكم ومحكوم في النطاق السلطوي أو الدستوري في أحسن الأحوال، وهي في جوهرها غير ذلك تماماً، لأنها تأهيل حضاري ومدني للناس وتربويات تحررهم من نزعة الاحتكار المتوحشة ومن عبادة الذات باعتبارها محور الوجود .

حتى الحب والعواطف الإنسانية النبيلة يجري اختزالها أيضاً إلى علاقات شبه عابرة يتحكم فيها موروث الثنائيات التي لا تعترف بأية مساحة أو ظلال بين الحب والكراهية والصديق والعدو والبطل والخائن . إن للقهر إفرازات تسمم كل ما تسري فيه من نسيج العلاقات الإنسانية، لأن المقهور يبدأ بالإشفاق على نفسه ثم ينتهي إلى التأقلم مع أسباب قهره، وهذا ما دفع جان جاك روسو إلى القول إن البؤس والشقاء لا يؤديان بالضرورة إلى الثورة أو النزعة إلى التغيير، فما يؤدي إلى ذلك هو الوعي بهما، وهناك عصور بلغ فيها القهر والظلم حدّاً من التوحش لا يمكن وصفه، لكنها لم تملك الوعي بهذا القهر بحيث تسعى إلى التحرر منه .

إن كتباً من طراز سايكولوجيا المقهورين، والطرد من التاريخ، وغيرهما مما صدر خلال العقد الماضي أو قبله لم تقرأ على نطاق يليق بها وبما طرحته من تحليلات لظواهر بقيت لزمن طويل في إطار التوصيف فقط . والمريض الذي لا يعبأ بالوصفة التي يكتبها له الطبيب ولا يحاول قراءتها عليه أن يتقبل تفاقم حالته، وفي أحيان كثيرة يتحمل المرضى نتائج ما ينتهون إليه لجهلهم بما يقضم عافيتهم ويسرع في هلاكهم .

المقهورون الذين لا يعون قهرهم لا ينتظر منهم غير المزيد من التأقلم والخضوع لأسباب هذا القهر .