صالح عبد الرحمن المانع
افتتح في فيينا يوم الاثنين الماضي مركز الملك عبدالله لحوار الأديان والثقافات وذلك بحضور شخصيات عالمية مثل الأمين العام للأمم المتحدة، ووزراء خارجية كل من الدول الثلاث الراعية للمركز، وهي المملكة العربية السعودية والنمسا (صاحبة المقر) وإسبانيا، وكذلك ممل شخصي لبابا الفاتيكان (بيندكت السادس)، الدولة المراقبة في رعاية المركز. كما حضر الحفل الرسمي الكبير ممثلون عن عدد من المنظمات السياسية والدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية والتاوية، وغيرها من الأديان والمذاهب.
وقد سبق افتتاح المركز، عقد مؤتمر قدمت فيه إحدى وعشرون ورقة علمية، كما عرض فيه العديد من الأفلام الوثائقية.
ولعل التجارب التي عكستها الأوراق المقدمة تمثل تجارب حيّة لأفراد ومؤسسات دينية وتعليمية تحاول بناء هيكل للسلام يحول دون استخدام الدين أو المذهب كأساس لتأجيج الصراع بين الأفراد والجماعات السياسية التي تريد حشد الرأي العام في منطقة معينة لمشروع الصراع بين الأديان، أو المذاهب كوسيلة لكسب معارك سياسية بحتة.
ومن بين الأوراق التي قدمت، ورقة قدمها الدكتور مصطفى علي من أفريقيا تحدث فيها عن الصراع في نيجيريا. وكيف أن عملية التبشير المسيحي في شمال نيجيريا قد هزت الاستقرار السياسي في تلك المنطقة وغيرت من التوازن الديني بين شمال نيجيريا المسلم وجنوبها المسيحي، بتحويل جزء من المنطقة الوسطى من البلاد إلى الديانة المسيحية، وتهديد التواجد الإسلامي في الشمال، مما أجج الشعور الديني وسمح بظهور عدد من الجماعات المتطرفة في تلك المنطقة، ومنها جماعة laquo;بوكو حرامraquo;.
وطرحت أوراق أخرى كذلك، منها ورقة قدمتها مجموعة هيئة الأديان الخيرية في لبنان محاولة بناء جسور من الثقة بين الشباب من مختلف المذاهب اللبنانية، وصياغة مناهج دراسية لمقررات جامعية تهدف إلى تعريف الشباب بالحوار كأساس للتفاهم بين المذاهب الدينية في لبنان وخارجه.
وكذلك قدمت أوراق تمثل مجموعات عمل خيرية تحاول بناء جسور من التفاهم بين أئمة المساجد في النمسا وبين رجال الكنيسة الكاثوليك، حيث يعيش في النمسا قرابة (500) ألف مسلم يمثلون 6 في المئة من السكان، غالبيتهم من تركيا. وتحاول هذه البرامج التي تتبناها الكنيسة الكاثوليكية تعريف الأئمة المسلمين الموفدين من تركيا بالثقافة النمساوية، وكذلك حفز العاملات المسلمات في مجال التمريض والصحة العامة للتعارف والتنسيق مع نظيراتهن من laquo;الأخواتraquo; والممرضات المسيحيات العاملات في المستشفيات والمصحات التي تشرف عليها الكنسية الكاثوليكية في النمسا.
وقدمت أيضاً بعض الأوراق الأخرى التي تدرس تجارب التعايش بين الأقلية المسلمة في بريطانيا والأغلبية المسيحية خاصة في المدن البريطانية التي يتركز فيها المسلمون، مثل برمنجهام. وتحاول هذه البرامج مدّ جسور الحوار بين الشباب المسلم والشباب المسيحي، عبر مشاريع ترفيهية ورياضية، من بينها إقامة مباريات مشتركة لكرة القدم وغيرها من المشاريع التعليمية والترفيهية.
وقدمت أيضاً جمعية laquo;الكامينوraquo; الإسبانية شرحاً وافياً عن محاولاتها للتقريب بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، وكيف أن هذه الأديان ساهمت في بناء تراث تليد لإسبانيا عبر عصور النور التي شهدتها الأندلس، ومدينة قرطبة على وجه الخصوص.
كما قدم مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في المملكة العربية السعودية وصفاً دقيقاً لأنشطته الثقافية، وقدمت إحدى المشاركات السعوديات تجربتها في تدريب عشرة آلاف سيدة وطالبة في المملكة على منهجيات وأدبيات الحوار الاجتماعي والثقافي.
وكانت هناك منظمات دينية وثقافية من الولايات المتحدة والهند وسريلانكا وغيرها من الدول ممن عرضت تجاربها الحيّة في هذا المضمار، الذي يهدف إلى تهدئة النزاعات والحروب، وإعادة إدارة الصراعات إلى بعدها الحضاري والإنساني، بعيداً عن العنف.
وقد لاحظت أن المداخلات التي قدمت من قبل رجال الدين الكبار الذين شاركوا بكلماتهم في حفل الافتتاح، ركزت على أولويات خاصة لكل طائفة دينية على حدة. فعلى سبيل المثال ركز الكاردينال ممثل الفاتيكان على مسألة حرية الأديان، وحماية الأقليات المسيحية في المشرق، كما ركز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي على مسألة التهجم على الأنبياء والرسل والتعرض للأديان السماوية، وطالب الأمم المتحدة بتبني قرارات تجرّم مثل هذا التهجم.
وبعض رجال الدين الكاثوليك، حرصوا كذلك، خاصة في الكنسية الشرقية، على تبيان الفروق العميقة بين مذهبهم وبين المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية.
كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته أمام المؤتمر إلى تداخل الصراعات الدينية والمذهبية، خاصة في الأزمة السورية والصراع العربي الإسرائيلي، وغيرها من الصراعات الإقليمية الأخرى.
والحقيقة أن الحوار بين الأديان والمذاهب ليس هو الهدف في حد ذاته، فكل واحد من هؤلاء الزعماء الدينيين يرى أنه يمثل الحقيقة المطلقة، وأنه لا يمكنه التنازل عن جزء ولو يسير من فضائه الإيماني. ولذلك فإن مثل هذه الحوارات تسعى في جوهرها إلى تعزيز وتعميق المشترك الإنساني بين الأديان والمذاهب والحضارات، والنأي عن استخدام الدين أو المذهب كعنصر تجييش للشباب والأطفال للزج بهم في حروب سياسية في المقام الأول.
كما أن مثل هذا الحوار يمكن أن يساهم في تعزيز قيم التعايش بين الثقافات واستقرار المجتمعات ذات التكوين المشترك، كما في بلاد الشام والعراق، وغيرها من البلدان العربية.
وفي أوروبا يمكن أن يؤسس مثل هذا الحوار لنشوء مجتمعات إسلامية مستقرة ومتسامحة مع البيئة المحيطة بها، والاحتفاظ في الوقت نفسه بطبيعتها المللية والدينية وتقاليدها وأعرافها، والاعتراف بهذه التقاليد والأعراف من قبل الأغلبية الحاكمة في هذه البلدان.
والحوار على الدوام هو سبيل السلام والمحبة والتعايش السلمي بين شعوب الأرض ودياناتها وثقافاتها المتعددة.
التعليقات