يوسف مكي

الدستور المصري الجديد ثمرة توافق وطني بين القوى الفاعلة من رجال القانون والفكر والعلم، لكن النصوص الدستورية إن لم تتحول إلى أعراف وتقاليد، وتصبح جزءا رئيسا من ثقافة المجتمع، فإنها تبقى دائما عرضة للانتكاسة


للمرة الثانية، وبعد مرور حقبة لا تتجاوز العام بكثير، سيقترع الشعب المصري على دستور جديد للبلاد. وقد تحدد موعد إجراء الاستفتاء خلال يومي 14 و15 من شهر يناير المقبل. وينتظر أن يكون هذا الدستور معبرا في روحه ونصوصه عن إرادة جميع المصريين، بمختلف معتقداتهم الدينية، وتوجهاتهم السياسية، وانتماءاتهم الاجتماعية.
الدستور السابق، صدر في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، والفارق بين الدستورين في طريقة إخراجهما كبير. فالأول صدر بعد الانتخابات التشريعية، وتشكل مؤسستي البرلمان ومجلس الشورى، وفوز مرسي بالانتخابات الرئاسية. وكان البرلمان قد شكل لجنة تأسيسية لإعداد مسودة الدستور، وإثر الانتهاء من ذلك، عرضت المسودة على البرلمان، ونوقشت بنودها فقرة فقرة، وأقرت بعد تعديلات أجريت عليها من قبل أعضاء المجلس. ومن ثم طرحت مسودة الدستور بصيغتها الأخيرة، للاستفتاء، وحظيت بموافقة الأغلبية.
أدت مجمل الظروف السياسية والموضوعية، بعد انتفاضة 25 يناير 2011، لأسباب ناقشناها في أحاديث سابقة، إلى هيمنة جماعة الإخوان المسلمين على مفاصل الدولة التشريعية والتنفيذية والرئاسية. وكان لذلك تأثيراته المباشرة على الصيغة التي برز فيها دستور 2012. فقد جاءت متماهية مع توجهات الجماعة، الهادفة إلى أخونة الدولة والمجتمع.
الدستور في أبسط تعبيراته هو القانون الأساسي للأمة، وبموجب نصوصه تحكم سلطات البلاد، ويتحدد نظام الحكم فيها، والقوانين القضائية والسياسية التي توجه العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. إن ذلك يعني أنه فوق كل القوانين، إنه حالة أعلى من كل المؤسسات، حيث ينبغي أن تتشكل وفقا لنصوصه. وهو فوق ذلك كله، يمثل إجماع الأمة. وإجماع كهذا لا يتحقق من خلال صناديق الاقتراع، بل من خلال التوافق بين كل مكونات المجتمع العقدية والسياسية والطبقية. بمعنى أنه يتحقق بالتوافق وليس بالأغلبية.
الاستفتاء عليه، من خلال صناديق الاقتراع يكون لاحقا للتوافق الاجتماعي. بمعنى أن اللجان التأسيسية لصياغة الدستور ينبغي أن تمثل في تشكيلها كل شرائح المجتمع.
كان الخروج على هذه القاعدة، في صياغة الدستور السابق، هو أول خلل فيه. فالدستور يفترض فيه أن يتشكل قبل الانتخابات. وأن تؤسس حكومة انتقالية تحضر له، من خلال تشكيل لجان تأسيسية تأخذ بعين الاعتبار العنصر الذي أشرنا له. بمعنى أن ترتيبات المرحلة الانتقالية، بما فيها إعداد الدستور والانتخابات البرلمانية والرئاسية، ينبغي أن تتجه من الأسفل إلى الأعلى.
هذه القضايا ليست أمورا شكلية يمكن التغاضي عنها، بل هي جوهرية. البرلمان المصري الذي انتخب جاء في ظل فراغ دستوري، ولذلك أجبر على العمل وفقا لدستور سابق، رفضه الجمهور، وعبر عن ذلك بخروجه إلى الميادين في 25 يناير. وكان هذا الفراغ قد أتاح لجماعة الإخوان المسلمين فرصا ما كان لهم نيلها لو بدأت الأمور مجراها باتجاه صحيح.
الدستور الجديد، هو نتاج توافق بين المؤسسات المعبرة عن مختلف شرائح وتوجهات المجتمع المصري. ففي خارطة الطريق التي أعلن عنها بعد 30 يونيو 2013، تمثلت قيادات الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، ومختلف التوجهات السياسية والاجتماعية. وكان لجميع هذه الشرائح، تمثيل مباشر في اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور التي عرفت بلجنة الخمسين، وتشكلت برئاسة الأستاذ عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية. وهذه اللجنة هي التي اختارت لجنة العشرة أشخاص الذين صاغوا المسودة الأولى للدستور الجديد. وبعد إنجاز المسودة الأولى طرحت للنقاش على لجنة الخمسين، التي أقرت المسودة الأخيرة، بعد مناقشات طويلة ومكثفة.
ولأن الدستور، كما أشرنا هو في جوهره توافقي، فإنه سيشتمل حتما على تسويات. وذلك ما يفسر تصريح رئيس لجنة الخمسين، عمرو موسى، وهو يدعو المصريين للتصويت بنعم على الدستور الجديد، بأن المشروع ليس الصيغة الأكمل للدستور، ولكنه الصيغة الأمثل لاحتياجات مصر في الوقت الحالي. لقد حرصت اللجنة على وضع حد للديكتاتورية من خلال المواد الخاصة بالرئيس، وضمان مجانية التعليم ومعايير الجودة له في الدستور، حسب تعبيره.
وإذا فالمقاربة أصبحت واضحة بين الطريقة التي صدر فيها دستور 2012، بعد انتفاضة شاركت فيها كل القوى السياسية، والشعب المصري في إطار وحدة وطنية وأهداف مشتركة، لكن الدستور لم يلبي تطلعات شرائح كبيرة من الشعب؛ لأن أغلبية أعضاء الجمعية التأسيسية، من المنتمين إلى جماعة سياسية واحدة فرضت رؤاها وخياراتها على المجتمع، مع أن الدستور هو كما يقول الفقهاء ينبغي أن يكون ثمرة لعقد اجتماعي، ويتحقق بالتراضي.
أما الدستور الجديد، دستور 2013، فإنه ثمرة توافق وطني بين القوى الفاعلة بالمجتمع، مستعينة، بأهل الكفاءة من رجال القانون والفكر والعلم. حافظ على هوية المجتمع الإسلامية، ونص على أن الدين الإسلامي، هو المصدر الرئيس للتشريع. وتضمن جميع الحقوق والحريات العامة، ووسع من نطاقها، ووضع على عاتق الدولة التزامات إيجابية، في إطار مبدأ المساواة، والحق في التقاضي والفصل بين السلطات.
في كل الأحوال، فإن النصوص الدستورية إن لم تتحول إلى أعراف وتقاليد، وتصبح جزءا رئيسا من ثقافة المجتمع، فإنها تبقى دائما عرضة للانتكاسة أو الاختطاف. سر عراقة النظم في أوروبا الغربية، ليست وضوح نصوص دساتيرها، ولكن في تحول روحها إلى ثقافات وأعراف. وليس أدل على ذلك من أن بريطانيا، التي يعتبر نظامها من أعرض ديموقراطيات العالم، ليس بها دستور مكتوب، ولكن أعراف وتقاليد وقوانين.
نتمنى من القلب أن يسهم الاستفتاء القادم على الدستور في مصر، في نقل مصر من حال إلى حال، وأن تبدأ مرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية والبناء، لتكون أرض الكنانة كما كانت دائما ركنا أساسيا من أركان النهضة العربية، وعونا رئيسا في تحقيق التضامن العربي ورفع شأن الأمة.