توفيق السيف
مفاوضات السلام السورية المتوقع انطلاقها في آستانة قبيل نهاية الشهر الحالي، لن تخرج على الأرجح باتفاق شامل بين حكومة دمشق ومعارضيها. لكنها تشكل منصة لفرز وتحديد الشركاء القادمين في الحل السياسي.
على المستوى النظري، يتحدث الجميع عن مفاوضات دون شروط مسبقة. لكن منطق الأمور يستلزم شرطين على الأقل؛ أولهما استعداد المفاوضين للتخلي عن القتال والقبول بهدنة طويلة الأمد، تسمح بمواصلة المفاوضات دون ضغط ميداني. وثانيهما هو القبول بنوع من إعادة هيكلة للطرفين الرئيسيين، الحكومة والمعارضة، تسمح بتمهيد الطريق أمام نقاش متقدم حول تشكيل حكومة انتقالية تقود البلاد بعد انتهاء الحرب.
قبول الحكومة بالشرط الأول يعني الإقرار (ولو ضمنيًا) بوجود المعارضة المسلحة على الأراضي التي تسيطر عليها فعليًا، والتخلي عن أي محاولة لاستعادتها بالقوة. وقبولها بالشرط الثاني يعني التخلي عن الأعراف السياسية والدستورية التي سمحت حتى الآن باحتكار حزب البعث الحاكم للحياة العامة ومصادر القوة في البلاد.
أما قبول المعارضة بالشرط الأول فيعني في المقام الأول فك الارتباط نهائيًا مع جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا)، وربما المشاركة في عزلها وتسهيل ضربها، إلا إذا رضيت الجبهة بالانفصال التام عن تنظيم القاعدة واستبعاد المقاتلين الأجانب من صفوفها. ومع أن خطوة كهذه تبدو عسيرة جدا، فإنها غير مستبعَدَة بالمطلق، خصوصًا بعد إعلان الجبهة فك ارتباطها التنظيمي مع «القاعدة» في منتصف العام الماضي. ربما يتطلب الأمر التضحية بأمير الجبهة المعروف بالجولاني.
الشرط الثاني الذي سيكون على قوى المعارضة قبوله هو توحيد قرارها السياسي، على نحو يؤدي (بالضرورة) إلى دمج الفصائل الصغيرة، وربما تحولها إلى أفواج عسكرية تابعة للجماعات الرئيسية. لا يمكن التحقق من العدد الفعلي للتنظيمات النشطة على الساحة السورية بسبب كثرة التحولات في داخلها. لكن هناك سبع جماعات كبيرة، إضافة إلى نحو 45 فصيلاً صغيرًا أو متوسط الحجم.
وخلال الأعوام الثلاثة الماضية بُذِلَت جهود متواصلة لدمج الفصائل، أو حتى تنسيق عملها في مجلس مشترك. وصدرت فعليًا اتفاقات موقَّعة من جانب الزعماء تؤكد الاندماج أو التنسيق. لكن جميعها بقي حبرًا على ورق. ويلقي المعارضون باللوم على التدخلات الأجنبية. إلا أني أميل للظن أن الطابع الشخصي لنظام القيادة في الفصائل، هو العلة الرئيسية لإخفاق محاولات التوفيق فيما بينها.
في كل الأحوال ستجد الفصائل الصغرى نفسها مضطرة للتخلي عن طموحاتها الخاصة. كما أن على الفصائل الكبرى أن تختصر طموحاتها، كي تستطيع الاشتراك مع المنافسين.
لا يتوقع أن ينجز الطرفان، الحكومة والمعارضة، هذين المطلبين خلال وقت قصير. لكن قبولهما بالهدنة الدائمة (وهي الهدف الرئيسي لمؤتمر الأستانة) سوف يحدِث تحولاً أساسيًا في المشهد السياسي، بانتقاله من الظرف الذهني - الميداني للحرب إلى ظرف السلام.
في ظرف السلام تهيمن لغة مختلفة، كما تولد مصالح - دوائر مصالح مختلفة. ويبرز تبعًا لها رجال آخرون غير الذين أنتجهم وأبرزهم ظرف الحرب.
مؤتمر الأستانة يشكل خطوة تمهيدية لمؤتمر جنيف، أو ربما مؤتمر دمشق، الذي سيرسم النهاية الفعلية للحرب الأهلية. نجاح مفاوضي الأستانة، يولِّد دينامية سياسية جديدة، من بين انعكاساتها المتوقعة تراجع دور المفاوضين الحاليين في المؤتمر المقبل، سواء عقد في جنيف أو دمشق. ثمة أطراف كثيرة ترقب تصاعد الدخان الأبيض، كي تحدد موقعها وحصتها في أي اتفاق جديد. وليس بالإمكان تجاهلهم جميعًا.
التعليقات