طلال صالح بنان
الأسبوع الماضي شهد حدثين مهمين، ستكون لهما آثار سلبية، ولو مؤقتة، على أكثر مؤسسات الأمم المتخصصة، التي لها علاقة بالإنسان حول العالم بعيداً عن السياسة والصراعات بين الدول.. ومؤامرات الدبلوماسية.. ودسائس المؤتمرات المبهرجة، وكواليسها المظلمة. منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، أعلنت الولايات المتحدة انسحابها منها، نهاية العام الحالي.. وتبعتها إسرائيل. العرب خسروا المنافسة على رئاسة اليونسكو للمرة الثالثة خلال العقدين الأخيرين.
خروج الولايات المتحدة من المنظمة، لا يعدو كونه خسارة لها قبل أن يكون خسارة لليونسكو، مضحية بسمعتها وضميرها وهيبتها المعنوية، من أجل إسرائيل!؟ إلا أن خروج واشنطن هذا من اليونسكو يتسق مع تأييد واشنطن غير المتحفظ لإسرائيل ظالمة وموغلة في الظلم، وإن كانت المبررات التي سيقت تتناقض مع سياسة واشنطن الخارجية المعلنة. واشنطن تعترض على سياسة الاستيطان الإسرائيلية.. وترفض الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل... بالإضافة إلى ما أعلنته عن مشروعها لحل الدولتين!؟
لم تخرج المقررات التي اتخذتها اليونسكو للتعامل مع أزمة الصراع العربي الإسرائيلي عن تلك الخطوط العريضة المعلنة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، مما ينسف ما تدعيه واشنطن من تحيز في اليونسكو ضد إسرائيل. لقد كان آخر قرارات اليونسكو النفي القاطع لأي حق لإسرائيل في المسجد الأقصى وحائط البراق، وفي كامل مساحة الهضبة المقامة عليها القدس التاريخية البالغ مساحتها ١٤٤ دونماً (١٤٤ ألف متر مربع). هذه نفس المساحة من القدس القديمة التي لا تعترف الولايات المتحدة بضم إسرائيل لها. كما أن قرار اليونسكو (٢٣ نوفمبر ٢٠١١)، بقبول دولة فلسطين عضوا بها، إنما هو ترجمة عملية وحضارية لمشروع واشنطن في حل الدولتين، تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية جنباً إلى جنب مع إسرائيل، تنفيذاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم: ١٨١ (٢٩ نوفمبر ١٩٤٧).
على أي حال لم تكن هذه المرة الأولى التي تنسحب فيها الولايات المتحدة من اليونسكو. سبق للولايات المتحدة أن غابت عن المنظمة لما يقرب من العقدين (١٩٨٤ - ٢٠٠٣) ولنفس المبررات... ولم يحدث أن فَتَ ذلك من عضد اليونسكو، وجعلها تتخلى عن وظيفتها الإنسانية الرفيعة.. أو تساوم في رسالتها الحضارية السامية، أو دفعها لأن تمضي في نهج «رجعي» عكس جادة مسيرة التاريخ.
رغم أن انسحاب الولايات المتحدة ستترتب عليه خسارة مادية للمنظمة، إلا أنه: رب ضارة نافعة. الخروج من المنظمة معناه من الناحية السياسية والعملية تحرر اليونسكو من الضغوط التي كانت تُمارس عليها من قبل واشنطن، وكذلك إيقاف حملة التزييف الثقافي.. وتطهير المنظمة من أدبيات تحريف التراث والتلويث المتعمد، التي كانت إسرائيل تمارسه، بمحاولتها إعادة كتابة تاريخ الحضارة الإنسانية، من وجهة نظر عنصرية قميئة.
في النهاية: لن يطول غياب الولايات المتحدة عن اليونسكو. المجتمع الأمريكي فيه حركة ليبرالية نشطة، لن تتخلى عن منبر مشع للثقافة الإنسانية، مثل اليونسكو. كما أن واشنطن، سرعان ما ستكتشف الخطأ المعنوي الفادح الذي أفقدها أحد أهم قواها الناعمة المتمثّلة في تقدمها العلم.. والترويج لثقافتها الليبرالية الحديثة، من خلال أهم قناة أممية تواصل من خلالها اتصالها الثقافي والحضاري مع شعوب الأرض. الأهم من كل ذلك، من الناحية السياسية، ستفقد واشنطن واحدة من أهم أدوات سياستها الخارجية، تحاول من خلاله تسويق أهدافها القومية. حتى في ما يخص دعمها اللا محدود لإسرائيل ظالمة وموغلة في الظلم، ستتضرر كثيراً عندما تُقْدِمُ المنظمة على تمرير قرارات، ما كان لها أن تمرر لو كانت الولايات المتحدة حاضرة مناقشاتها.. ومشاركة، بل ومشرفة على عملية التصويت فيها.
أما العرب مع اليونسكو فمشكلتهم مختلفة. ما انفك الصراع بين العرب.. والخلافات المزمنة بينهم.. والشيفونية المستحكمة لدى البعض منهم بالإضافة إلى «فحش» الخصام بينهم يسيطر على سلوكهم، حتى في أكثر مؤسسات الأمم المتحدة رفعة من الناحية الأدبية والحضارية (اليونسكو). منذ البداية ليس هناك من معنى أن يتقدم العرب بثلاثة مرشحين لمنصب رئاسة اليونسكو. منذ بداية الألفية الجديدة والعرب يتنافسون فيما بينهم (فرادى)، للفوز بالمنصب، دون أدنى اعتبار لكونهم، في النهاية عرباً، من الناحية الثقافية والحضارية!
في انتخابات اليونسكو الأسبوع الماضي، ظهر للعالم كم أن العرب بعيدون جداً عن أصالة ثقافتهم وعراقة قيمهم التاريخية والإنسانية، مما يجعلهم غير جديرين بحمل لواء ثقافة العالم وحضارة الإنسانية. لقد تغلبت اعتبارات السياسة الضيقة والمؤقتة بطبيعتها، على مسؤولية العرب في خدمة قضاياهم المصيرية، التي هي في الأساس ثقافية وحضارية وإنسانية. الغريب هنا أن قضايا العرب العادلة مع خصومهم الإقليميين، وخاصة في مواجهة إسرائيل ما زالت حية في ضمير العالم ووجدان الإنسانية، وغاب عنهم أن رئاستهم لليونسكو سترفع من كفاءتهم في خدمة قضاياهم القومية.
لقد فات العرب أن يدركوا معنى انسحاب الولايات المتحدة وإسرائيل، بسبب دعم اليونسكو لقضاياهم، ليكيدوا لبعضهم البعض علناً، حتى لا يتقلد هذا المنصب الأممي الرفيع مثقف عربي.
هذه هي خسارة العرب الحقيقية في انتخابات رئاسة اليونسكو الأخيرة، بل ومأساة تجربتهم مع هذه المنظمة الأممية الرفيعة.
التعليقات