علي العميم 

في عام 1950، الذي كتب فيه الهندي أبو الحسن الندوي مقاله «كيف توجه المعارف في الأقطار الإسلامية؟»، الذي يخاطب فيه الأقطار الإسلامية كافة باللغة العربية، لم تكن المنطقة العربية متأثرة بفكر قومي عربي، انقلابي واشتراكي، وكان خطر الشيوعية على الشباب السعودي آنذاك غير موجود.
إن المقترح التعليمي والتربوي الذي قدمه في ذلك العام - الذي نفذ أولاً، في مادة الثقافة الإسلامية في بعض الجامعات في عدد قليل من البلدان العربية ما بين أواخر خمسينات القرن الماضي وأواخر ستيناته، ونفذ ثانياً، في المقررات المدرسية السعودية في ثمانينات القرن الماضي - هو موجَّه ضد التعليم الغربي عموماً، وضد التأثر به أو تكييفه أو الاقتباس منه أو تعديله في البلدان الإسلامية.
وتبلغ عداوة أبي الحسن الندوي للتعليم الغربي ذراها، حينما قال هذه العبارة: «وأولى للبلاد الإسلامية أن تتجرد منه وتحرم من ثمراته المادية، فالأمية خير لها من هذا التعليم الذي يرزأها في طبيعتها وعقيدتها وروحها».


فالإسلاميون في القارة الهندية وفي العالم العربي، لم يكونوا طرفاً «مستقبلاً» - كما صورهم الدكتور أحمد العيسى في شرحه وتفسيره لوثيقة سياسة التعليم في السعودية - بل هم طرف مرسل وفاعل ومبادر، والذين صاغوا منهم الوثيقة لم يصوغوها بالكيفية التي صاغوها بها «استجابة» للتحدي القومي والتحدي الشيوعي اللذين يواجهان السعودية في العقد الذي هو حدده، وهو عقد الستينات، وإنما فعلوا ذلك، لأنه هكذا هو مشروعهم التعليمي والتربوي الإسلامي الذي بنى أول لبنة فيه أبو الحسن الندوي، مستنداً إلى تجربة تعليمية تربوية آيديولوجية قائمة عند قومه، مسلمي الهند.
إنني لا أتحامل على الدكتور أحمد العيسى حينما أقول إنه يقول كلاماً مرسلاً أو يردد كلاماً صحوياً معلباً تعوزه الدقة والتحري والتثبت. وهاكم البرهان على ذلك:
إنه يقول: «خشية من تأثير التيارات القومية والشيوعية على الشباب السعودي في المدارس والجامعات، سعت الحكومة في تلك الفترة، إلى (استقطاب) العلماء المناهضين للشيوعية والقومية، وبخاصة من علماء الأزهر وقيادات الإخوان المسلمين في مصر والشام للعمل في التدريس في المدارس والجامعات».


لنخضع قوله هذا للتدقيق والفحص.


الشيوخ في جامعة الأزهر هم موظفون حكوميون، والذين يُعارون منهم للتدريس في السعودية وسواها من البلدان العربية والإسلامية لا يُعارون إلا بعد أخذ موافقة الحكومة المصرية على الإذن بالإعارة. هؤلاء في ستينات القرن الماضي ليس في مقدورهم حتى وإن كانوا في السعودية أن يناهضوا القومية العربية والاشتراكية، لأنهم سيتعرضون لمساءلات أمنية حين يعودون إلى بلادهم في إجازاتهم السنوية أو حين عودتهم النهائية إليها. ولم يكن في وسع الحكومة السعودية وقتذاك استقطابهم، لأن العلاقة بينها وبين مصر في أغلب سنوات الستينات كانت متدهورة وسيئة.
أما الشيوعية فلا حاجة لشيخ في جامعة الأزهر من أجل مناهضتها أن يذهب إلى السعودية مدرساً، لأنه يستطيع فعل ذلك وهو في بلاده وعلى رأس عمله في الأزهر.
إضافة إلى هذا كله، نحن لا نعرف على مستوى الوقائع والأحداث اسماً أزهرياً كان في تلك الآونة ناشطاً - على أي مستوى - في مناهضة القومية العربية ومناهضة الاشتراكية في السعودية أو في غيرها من البلدان العربية والإسلامية.
نأتي الآن إلى علماء الدين من الإخوان المسلمين.
علماء الدين في الإخوان المسلمين أقل من القلة. ففي مصر لا يتعدون الثلاثة أو الأربعة. ولم يكن أحد من هؤلاء يعمل في السعودية في ستينات القرن الماضي. فالشيخ سيد سابق والشيخ محمد الغزالي كانا يشغلان وظيفتين معتبرتين في وزارة الأوقاف. ومما أهَّلَهما لذلك أنهما كانا انشقّا على قيادة الشيخ حسن الهضيبي للإخوان المسلمين، وأنهما التحقا بركاب الرئيس جمال عبد الناصر في صراعه مع الإخوان المسلمين. الشيخ يوسف القرضاوي - لتوضيح الفكرة التي وردت في بدء المناقشة - وهو يعمل في قطر كان يُظهِر الولاء لعبد الناصر، ولم يذم القومية العربية ولا الاشتراكية في حياة عبد الناصر، لأنه موظف حكومي في المكتب الفني لإدارة الوعظ والإرشاد التابع للإدارة العامة للثقافة الإسلامية في الأزهر.
الشيخ مناع القطان - الحاصل على الجنسية السعودية، المسؤول عن الإخوان المسلمين في السعودية، سواءً أكانوا مصريين أو من أحد بلدان الشام، الذي له صلة بوثيقة سياسة التعليم - أعير للعمل في السعودية مدرساً في المعاهد العلمية وعمره لم يبلغ بعد سن الثلاثين. وهو قد قدم إلى السعودية في عام 1953، بحثاً عن الرزق. وربما أن الذي رغَّبه في هذا شيخه و«بلدياته» عبد الرزاق عفيفي الذي سبقه إلى القدوم للسعودية بسنوات قليلة.
الشيخ القطان حين قدم إلى السعودية كان حديث التخرج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ولم ينشأ له اسم بعد. فاسمه نشأ بعد سنوات من إقامته في السعودية. فهل «يستقطب» من هو غير ذي شأن في بلده في أي مجال كان؟!


هذا فضلاً عن أن الظروف السياسية الداخلية والخارجية التي قال إن الوثيقة صدرت في ظلها، لم تكن موجودة حين قدم الشيخ إلى السعودية.
الشيخ العراقي محمد محمود الصواف الحاصل على الجنسية السعودية - وهو في حدود معلوماتي أشهر إخواني دخل إلى وزارة المعارف في الستينات بصفته مستشاراً إلى جانب وظائف أخرى شغلها - كان لاجئاً سياسياً بعد هروبه من العراق إلى سوريا. فهل أنت بحاجة إلى أن «تستقطب» اللائذ السياسي بك؟!
وكما كان الصواف لاجئاً سياسياً، كان الإخوان المسلمون المصريون في الستينات مثله لاجئين سياسيين. أما السوريون الذين لهم صلة بالوثيقة؛ فبعضهم كان موجوداً في السعودية، ومن كان لا يزال في بلده أوصى به ليشارك فيها إخوته ورفاقه في جماعة الإخوان المسلمين. وكذلك هو حال الباكستاني أبي الأعلى المودودي والهندي أبي الحسن الندوي، فهما لم يكونا بحاجة إلى عملية استقطاب؛ فالأول كان يستهدف القارة الهندية وإيران والعالم العربي بإسلامه الجديد، والآخر كان يستهدف العالم العربي وإلى حد ما تركيا برسالته الإسلامية الجديدة المستلهمة من رسالة الأول.
هذا فيما يخص الوثيقة. أما ما يتعلق بما سمّاه «استقطابهم» للتدريس في المدارس والجامعات ليكونوا بديلاً «للمعلمين والمعلمات من البلاد العربية، من مصر وسوريا والعراق وفلسطين»، فبادئ ذي بدء، ما قاله هنا ووضعتُه بين قوسي القول، كان جملة ناقصة وملبِسة. فالإخوان المسلمون المدرسون في التعليم العام والجامعات السعودية قادمون - أيضاً - من هذه البلدان. فيا ترى ما مشكلة أولئك المعلمين والمعلمات؟!


إن ما لم يكمِله، وتجنَّب قوله عامداً، هو أن أولئك المعلمين والمعلمات كانوا في الستينات يبثون الدعوة، إما لأفكار حزب البعث وإما لأفكار عبد الناصر وإما للأفكار الشيوعية. وقد تجنب هذا الإكمال، لأنه كان من ضمن الذين يخاطبهم في كتابه، أصحاب الأفكار المتحررة.
إن ما قاله هو دعوى صحوية محضة، لكنه في صياغته لها في جملة ناقصة ملتبسة أصبحت قليلة الشحم.


من المؤسف أن التضخيم والمبالغة والتهويل الذي يصل إلى حد الكذب الصريح، خلّة ثابتة ومتفشية ومتوارثة عند الإسلاميين. ولقد سبق لي في سلسلة مقالات أن كشفت هذا الجانب عند واحد من كبارهم موصوف بالتقوى والورع، وهو أبو الحسن الندوي حين صور الحجاز على ما هو غير عليه في زيارتيه إليه في أواخر أربعينات القرن الماضي وفي أول خمسيناته.
في حدود ما نعرفه عن جيل الستينات سواء أكانوا ناصريين أم بعثيين أم قوميين عرباً أم شيوعيين، أنهم لم يصبحوا كذلك بتأثير من مدرس، أو بسبب تجنيده لهم، هذا إذا ما كانوا منظمين حزبياً لأحد التنظيمات القومية والشيوعية. فالتأثير والتجنيد أتيا عن طرق ليس من بينها المدرسة والجامعة والمعلم، كما هو حال الإخوان المسلمين.
هذا شيء، والشيء الآخر أن الإخوان المسلمين لم يكن لهم في الستينات ثقل في التعليم العام والتعليم الجامعي، وإنما ثقلهم كانت بداياته مع النصف الأخير من السبعينات، وذروته كانت في الثمانينات. ولذلك أسباب لعل من أبرزها أن الإخوان المسلمين ليسوا حزمة من مدرسين في التعليم العام وفي التعليم الجامعي، لذا لم يكن بإمكانهم تلبية حاجة السعودية إلى مدرسين في هذين المستويين.


عودة السعوديين المبتعثين المعتنقين لأفكار الإخوان المسلمين إلى بلادهم وشغلهم مناصب مؤثرة في وزارة المعارف والجامعات في السبعينات. هؤلاء وآخرون منهم درسوا في الداخل وشغلوا مثلهم مناصب مؤثرة في وزارة المعارف، كانوا بمبادرة فردية منهم - مستغلين التحالف السياسي والثقافي والآيديولوجي بين حكومتهم والإخوان المسلمين - ينتقون من البلدان العربية للتدريس في بلادهم من هو من الإخوان المسلمين، بحجة حماية الطلبة السعوديين من الأفكار الهدامة والمبادئ المستوردة. لذلك كان بعض المدرسين العرب الحريصين على الظفر بعقد تدريس في السعودية، لما عرفوا محك الأهلية لهذه المهمة، ادَّعوا الأخونة، مع أنهم - علم الله - لم يكونوا في فترة من حياتهم «إخواناً»! وللحديث بقية.