رسالة إلى الرأي العام الفلسطيني لمناسبة اجتماع المجلس الوطني

ماجد كيالي 

بعد أيام قليلة سيعقد المجلس الوطني الفلسطيني اجتماعاً له في رام الله (30/4)، وسط مجادلات صاخبة، اعتادت عليها الساحة الفلسطينية، تتعلق بمكان الاجتماع، أو مدى شرعّيته، أو جدول أعماله، أو عضويته، علماً أن هذا المجلس لم يعقد اجتماعاً عادياً له منذ العام 1996، أي منذ أكثر من عقدين. بيد أن الأكثر أهمية هنا يتعلق بانحسار مكانة المنظمة، التي يفترض أنها تمثل كل الفلسطينيين بكل جوانب قضيتهم، لصالح السلطة، منذ إقامتها في الأراضي المحتلة (1967)، بموجب اتفاق أوسلو (1993)، والتي هي معنيّة فقط بإدارة أوضاع فلسطينيي الضفة والقطاع، وبالعملية التفاوضية المعقدة والمضنية مع إسرائيل، وإدارة العلاقات الدولية، لا سيما بعد أن أضحى رئيس المنظمة هو ذاته رئيس السلطة، الأمر الذي أضعف فاعلية المنظمة، وقوتها التمثيلية، ناهيك أن ذلك همّش مجتمعات الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات من إطار المعادلات السياسية الفلسطينية.


فوق ذلك، فإذا أضفنا، إلى كل ما تقدم، غياب المجلس التشريعي، الخاص بتمثيل فلسطينيي الضفة والقطاع، ضمن النظام السياسي للسلطة، فإنه يمكن القول إن الفلسطينيين يعانون من فراغ قيادي، وتشريعي ومؤسسي، كبير، وخطير، منذ عقد اتفاق أوسلو (1993)، ما يفيد بأن تدبر الأوضاع في الكيانات السياسية الجمعية، أي المنظمة والسلطة، والإطارات المؤسسات المنبثقة منهما، ليس على ما يرام، وأنه يدار بطريقة غير مؤسسية، وغير تمثيلية، وغير ديموقراطية.

بيد أن كل هذه الاعتبارات، على أهميتها، تغفل، عن قصد أو من دونه، ثلاثة مسائل على غاية الأهمية، هي التي يفترض أن يتمحور عليها النقاش الدائر، وهي التي ينبغي أن يضعها المجلس الوطني في محور نقاشاته، كونه الإطار التشريعي والقيادي للشعب الفلسطيني، كما هو مفترض.

أولى تلك المسائل، تتعلق بمراجعة اتفاق أوسلو، والخيار المتعلق بإقامة دولة في الضفة والقطاع، بعد أن وصل إلى طريق مسدود، رغم مرور ربع قرن على عقده، بسبب تملص إسرائيل ومحاولاتها فرض سيطرتها كقوة استعمارية بواسطة سياسات الأمر الواقع، لا سيما بعد موقف إدارة ترامب، التي تخلت عن التزاماتها في عملية التسوية وعن مكانتها كراع نزيه وكضامن موثوق وكوسيط محايد في هذه العملية، وسعيها للقفز فوق الحقوق الفلسطينية، وفوق «مبدأ الأرض مقابل السلام»، بمحاولاتها تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، على مستوى الأنظمة، مستغلة تدهور أحوال المشرق العربي وصعود النفوذ الإيراني في المنطقة. والفكرة هنا إنه لابد من البحث عن خيارات أخرى، أو موازية، وصوغ رؤى سياسية تتأسس على إعادة الاعتبار لوحدة شعب فلسطين ووحدة قضيته، في كافة أماكن تواجده، في 48 والضفة والقطاع وبلدان اللجوء. وبمعنى آخر فإن المطلوب انتهاج خيارات لا تنحصر في خيار وحيد، ولا تضع خياراً وطنياً ما في مواجهة خيار آخر، رؤى تتأسس على رفض ومقاومة إسرائيل، باعتبارها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وتعرّف نفسها كدولة يهودية. رؤى، تتأسّس على المطابقة بين قضية فلسطين وجغرافية فلسطين وشعب فلسطين، أو تفضي إلى ذلك. رؤى يمكن أن تضفي معان وقيم إنسانية على فكرة التحرير، بحيث لا تختزل بتحرير جزء من الأرض، فقط، على أهمية ذلك، إذ يشمل ذلك، أيضاً، تحرير الإنسان والصراع على الحقوق، أي الحقوق الفردية والوطنية، والتي تتطلب تقويض المشروع الصهيوني، وأن أي حل نهائي للصراع يجب أن يقوم على الحقوق المتساوية للفلسطينيين، باعتبارهم شعباً واحداً، في كافة أماكن تواجدهم، من جهة، والإسرائيليين اليهود، من جهة أخرى. وإن للفلسطينيين جميعاً بدون استثناء القول الفصل في قبول أي حل لقضيتهم أو رفضه، ولا يمكن لأية جهة كانت أن تفرض عليهم حلاً دون الرجوع إليهم، على اختلاف أماكن إقاماتهم، إذ لا بد من احترام إرادتهم المعبّر عنها بأشكال الممارسة الديموقراطية. وأن الفلسطينيين لا يتنازل بعضهم عن حقوق البعض الآخر، فلا يقبل حل تضيع فيه حقوق جزء من الشعب الفلسطيني ثمناً لحصول جزء آخر على حقوقه، كما لا يوضع هدف في مواجهة هدف، أو حق في مقابل حق آخر.

المسألة الثانية، وهي تتعلق بتصويب أحوال الكيانات والمؤسسات الجمعية الفلسطينية، لا سيما المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية. وضمن ذلك تأتي: أولاً، ضرورة الفصل بين كياني المنظمة والسلطة، في الإدارة والرئاسة والسياسة، وتصويب هذه العلاقة، بما يعيد الاعتبار للأولى مكانتها ككيان سياسي وكقيادة للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده (وضمن ذلك إيجاد الصيغة التي تسمح بتمثيل أو مشاركة فلسطينيي 48)، واستعادتها لطبيعتها كحركة تحرر وطني يعبر عن قضية فلسطين، والتي تمثلت بالنكبة وإقامة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، وحرمان الشعب الفلسطيني من أرضه وهويته، وتمزيق مجتمعه. ثانياً، إعادة بناء منظمة التحرير، باعتبارها الكيان السياسي القيادي الجامع، والممثل الشرعي الوحيد، لشعبنا، في كافة أماكن تواجده، بعيداً عن ترتيبات المحاصصة الفصائلية «الكوتا»، أي على قواعد وطنية تمثيلية ومؤسسية وديمقراطية وكفاحية، وعلى قاعدة الانتخابات في الحالات الممكنة، واعتماد العضوية في المجلس الوطني على تلك الأسس، ويأتي ضمن ذلك إعادة تعريف الفصائل، بعد أن بات أكثرها ليس له مكانة وازنة في المجتمع ولا أي دور مؤثر في مواجهة إسرائيل. ثالثاً، تغيير وظائف السلطة، بحيث تصبح مهمتها إدارة المجتمع، وتعزيز كياناته ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتنمية موارده البشرية، وتعزيز قدرته على الاعتماد على ذاته، واستثمار إمكاناته في شكل أفضل، لتأمين متطلبات صموده، وتنمية قدرته على مقاومة سياسات إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، وضمن ذلك استعادة وحدة الكيان الفلسطيني، بين الضفة وغزة، والعمل على إنجاز المصالحة الوطنية. رابعاً، بذل الجهود لإيجاد الأشكال المناسبة لتعزيز التفاعل والعمل المشترك بين تجمعات شعب فلسطين الواحد، في 48 والضفة وغزة ومناطق اللجوء والشتات، لصوغ الأطر السياسية المشتركة والأنسب، للتعبير عن شعبنا في كافة أماكن تواجده، وتأكيد وحدته، وقيادة كفاحه.

أما المسألة الثالثة، فهي تتعلق بضرورة مراجعة أشكال النضال الممكنة والمجدية والتي تتناسب مع إمكانيات الشعب الفلسطيني وقدرته على التحمل، والتي تحيّد ما أمكن استخدام إسرائيل لقوتها العسكرية، واعتماد أشكال النضال الشعبية، بعد تآكل أو فوات الخيار المتعلق بتغليب العمل المسلح واستبعاد أشكال النضال الشعبية الأخرى، باعتبار أن العملية الوطنية الفلسطينية ذات وجهين، أولهما، مواجهة إسرائيل، بسياساتها الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية. وثانيهما، بناء المجتمع وتنمية موارده وتعزيز كياناته، وترسيخ العوامل التي تسهم في صموده في أرضه، مع الحرص على ألا تضر العملية الأولى بالعملية الثانية، وألا تودي العملية الثانية إلى خلق واقع من الاحتلال المريح والمربح لإسرائيل. ويأتي في ذلك اعتبار الكفاح الشعبي، على نمط الانتفاضة الأولى، مثلاً، وكما جرى في الهبّات الشعبية في القدس وغزة، أخيراً، الوسيلة الأنجع والأنسب والأكثر تأثيراً، لأنه يستند إلى إمكانات الشعب الفلسطيني الذاتية، وتجربته وخبراته، لا سيما أن هذا الشكل أثبت جدواه، ولأنه يفوّت الفرصة على إسرائيل استدراج شعبنا لمواجهات تستخدم فيها قوتها العسكرية لاستنزافه وتقويض قدراته وإضعاف حصانته السياسية والاجتماعية، وفقاً للتجارب السابقة. وهذا بالطبع لا يستثني وسائل النضال الأخرى التي أقرّتها الأعراف والقوانين الدولية، مع الأخذ بالحسبان خصوصيات الأجزاء المكونة لشعبنا الواحد.

هذه هي القضايا التي ينبغي للمجلس الوطني، ولأية إطارات قيادية في الحركة الوطنية الفلسطينية، التوقف عندها ودراستها واتخاذ القرارات في شأنها، والتي توصلت إليها مجموعة من الفلسطينيين، كتاب وباحثين وأكاديميين ومثقفين، من مختلف مجتمعات الفلسطينيين، في 48 وفي الضفة والقطاع وفي بلدان اللجوء والشتات، عبر حوارات معمقة، وغنية نتج عنها إعلاناً، أو بياناً، سياسياً، يتضمن هذه الأفكار ويعلن تشكيل ملتقى للمتوافقين عليها، إلى الرأي العام الفلسطيني، بمناسبة انعقاد المجلس الوطني.