زهير الحارثي

فارق أن تعبّر عن موقف سياسي تجاه قضية لا تلبث أن تتلاشى نهاية اليوم، وبين قضية تمس أمنك واستقرارك ومستقبل أجيالك.. هذا هو الفارق وفيه تكمن كل القصة وخفاياها..

بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي للبرنامج الإيراني تابعنا مواقف سياسية من بعض الدول إزاء القرار الأميركي وإن كان ما يهمنا هنا هو الدول المعنية بالأمر، نقصد مواقف الدول المجاورة لصاحبة الأزمة إيران وهم بطبيعة الحال المعنيون بالقضية وما قد ينجم عنها من تداعيات، هناك من أيّد الخطوة الأميركية وهناك من أبدى قلقه ورفضه بطبيعة الحال وهناك من بارك الخطوة على استحياء وتعاطف مع إيران، دولتان خليجيتان شقيقتان وهما من النسيج الخليجي وأبناء عمومة كان لهما موقف ناعم ومطاطي وإن شئت دبلوماسي وتوفيقي لأطراف الأزمة.

قراءة الحدث يبدو أنها انطلقت من قناعات داخلية وربما من منطلق ظروف تاريخية معينة وهذا من حقهم ولكن إن أردنا الحقيقة ثمة من استغرب -وأنا منهم- مضمون البيانين اللذين صدرا عن الدولتين مع بالغ الاحترام لاستقلالية وسيادة كل منهما، سبب الاستغراب يعود إلى طبيعة هذا الملف الحساس وبالذات للدول الخليجية التي ستكون في واجهة الخطر متى ما حدث لا قدر الله سواء في مواجهات عسكرية أو حتى في حال تسرب إشعاعي نووي لا قدر الله.

رب قائل هنا يتساءل عن قيمة مفاهيم كالسيادة والاستقلالية ومبادئ القانون الدولي طالما الحديث عن مواقف سياسية والحقيقة أنني لا أنتقص من أهمية ما سبق لا سيما وأنني انطلق من تخصصية تراكمية تجعلني أعرف ما أريد قوله تحديداً، ما أعنيه هنا أنه من حق الدولتين أن تُعلنا الموقف الذي تريان أنه مناسب ويتسق مع مصالحهما بشرط وضوح الصورة الشمولية لديهما بدليل موقف أي دولة ما إزاء قضية معينة لا يعد خطأ أو تجاوزاً بل هو من صميم حقوقها في التعاطي السياسي، إذن أين تكمن الإشكالية في مسألة الملف النووي الإيراني وما المشكلة تحديداً؟ لماذا نعترض على موقف البلدين الشقيقين وهما يعبران بوضوح عن إرادتهما السياسية بكل شفافية؟

الحقيقة أن المعضلة هي في خطورة هذا الملف على استقرار وأمن دول الخليج جميعاً. الخشية ما قد تعنيه تلك المواقف المعلنة الهادئة من رسائل طمأنة لطهران تدفعها للمزيد من التعنت السياسي والتدخل في شؤون الغير، التعامل الدبلوماسي قد يجدي في كثير من الملفات والقضايا إلا في قضية بهذه الحساسية المعقدة التي باتت تهدد بقاء ووجود هذه الدول، دول الخليج عانت كثيراً من التدخلات الإيرانية في شؤونها الداخلية ونستحضر اكتشاف خلايا نائمة مدعومة إيرانية في بعض الدول الخليجية ناهيك عن أن التعاطي الفارسي الصفوي تجاه الضفة الأخرى الخليجية لم يتغير منذ الملكية والنظرة الدونية لم تزل للأسف هي ذاتها، أصبح واضحاً وجود مشروعات توسعية إقليمية إيرانية هدفها النفوذ والهيمنة على المنطقة. هذا يتطلب قراءة واقعية تُغلب أمن المجموع على المصالح الفئوية والضيقة.

نحن خليجياً باستثناء قطر بحاجة إلى صوت قوي وموحد لاستهجان ما تقوم به طهران، ولعل إعادة العقوبات الاقتصادية وسيلة ناجعة لتأديب النظام الثوري الإيراني، المواقف السياسية من الطبيعي أن تتبدل فهي ليست نصوصاً مقدسة بل لها قابلية للتغيير والمرونة والعبرة بتحقيق المصلحة، الحالة الإيرانية ورغم صحة ما سبق فإنها تحتاج إلى تعاطٍ مختلف لأن المسألة هنا ليست مرتبطة باستقلالية القرار أو السيادة أو مبادئ القانون الدولي برغم أهمية كل ذلك، بل هي ملتصقة بقضية الوجود كدولة وكيان وتاريخ، لذلك قد تحتاج إلى اتخاذ قرارات صعبة كون نتائجها على المدى البعيد إيجابية وذات جدوى، ما قيمة السيادة والاستقلالية لديك وقد تدفعك الظروف للتفريط في بلادك بسبب ممارسات عدو يبتسم لك علانية ويضمر لك الشر خفية كفريسة تنتظر لحظة الانقضاض، فارق أن تعبر عن موقف سياسي تجاه قضية لا تلبث أن تتلاشى نهاية اليوم وبين قضية تمس أمنك واستقرارك ومستقبل أجيالك، هذا هو الفارق وفيه تكمن كل القصة وخفاياها، ليس عيباً في أن تُرتكب الأخطاء فهذا من طبيعة البشر، إنما العودة إلى جادة الصواب هو من شيم الكبار لا سيما أن تعلق الأمر بمستقبل شعوب واستقرار دول في ظل دقة المرحلة الراهنة.