&إبراهيم الوافي

&

&في تاريخنا الأدبي القديم، تعدّ ظاهرة التدفّق الكتابي عند بعض الرواة والكُتاب القدماء، كالسيوطي مثلًا؛ حيث يبدو التاريخ الحياتي زمنيًا أقل من أن يستوعب إنتاجه كما رأى بعض مجايليه، تعدّ هذه ظاهرة خارقة دفعت بعض الصوفيين منهم إلى إحالة تلك القدرة إلى (طيّ الزمن)؛ حيث يرون أن الله - سبحانه وتعالى - إنما طوى الزمن لأولئك العلماء والمبدعين، فمنحهم زمنًا أكثر من زمننا؛ لينتجوا لنا كل هذا الكم الهائل من الأعمال الإبداعية، هذه الرؤيا الصوفية أو محاولة فهم الغزارة الإنتاجية على مستوى التأليف والحضور المؤثر جدًا - لا يمكن أن نغفل في سياقها عن ظاهرة الراحل غازي القصيبي، وأقول ظاهرة؛ لأنه بدا لنا كذلك دائمًا؛ حيث جاء أكثر من زمنه وأوفر من تاريخه، إنه تلك الذاكرة المستدعاة كلما شعرنا بحاجة وزارةٍ ما إلى «غازي» آخر، هكذا عاش فينا أكثر منا، بل إنه أوسع حتى من زمنه حينما استشرف ما نحياه اليوم في أكثر من سيرة وأكثر من رؤيا. لقد بقي في تاريخنا دائمًا مدينة الوزراء، وذاكرة الشعراء، وأناقة السفراء؛ حيث ظل وحده بظلالٍ مشعّة وهيئة مدنية منذ فجر الحضور.. إنه «غازي»، ذلك الذي لم تكن ترى في ذكاء نظراته إلا رجلاً لا يغيب، ولا في وجهه البحريّ إلا سفرًا لا يؤوب، حتى نظّارته بدت دائمًا وكأنها جامعة الوجود، في حين أن عينيه دائمًا جاءت مستقبلًا يبدأ قبله!

القصيبي ذلك المثقف الكوني الذي نظّر للحياة من كل عتباتها حين فُتحت له أبوابها، أقف به اليوم بعد رحيله مستعرضًا ذلك الحضور الذي جايلته صغيرًا يوم أن كانت أحلامنا جميعًا أن نخلق فينا بعض «غازي» آخر.. نعم، أتذكر جيدًا كيف كان القصيبي ذلك الحلم الغيبي فينا، تلك القدوة التي نتهجّاها في أرواحنا، ثم ندرك عجزنا عن بلوغها.

هكذا ألقاه اليوم حتى بعد رحيله.. في ثقته سُنّة الحالمين، وفي صفاء روحه وطن اليتامى، حتى ملامحه عبر نظرة حنين تحملك لرجل يفكّر حين يكتب، ويكتب حيثما يفكر، بل إن صوته كلما أستعيده فكأنما ألقاه وزنًا جديدًا لقصيدة لم تُكتب بعد.

القصيبي الذي أستعيد ملامح زمنه أو حتى ملامحه فينا لا يتلوه الوقت إلا على هيئته قصيدة تتغنّج عليه، أو حتى رواية بدت أكبر من شفتيه أحيانًا، إنه القصيبي، الذي طُوِي له الزمن والتاريخ معًا، كثير فينا حتى كأن الموت لم ينقص منه شيئًا، فهو رجل من زمن الصدق، ووزير من فئة الخالدين في التاريخ، وشاعر من سلالة النجوم وأقمار القصيدة، وروائي من عهد التدوين، وسفيرٌ من عقود الإنسانية.

اليوم بعد رحيله تقع عيناك عليه في صحيفة، فينسدل زمانٌ أصدق بين راحتي لحظتك، أو تلتقيه في كتابٍ فتختبئ بين صفحاته كطفلٍ يخاف البرق، أو ربما في فيلم قديم في حاسوبك الشخصي، فتطفئه وجدًا، وتحفظه في مفضّلةِ قلبك.

يرحل القصيبي جسدًا فيتذاكره الضوء في الظلام، والصورة في الحائط، والتاريخ في كتاباته الموثّقة، ثم تبقى ملامحه وَشْمَ الزمن على جسد الوجود، وشمًا يشير دائمًا إلى مثقف كوني لا يغيِّبه الموت.