يصعب على الإنسان فهم وإدراك فلسفة السياسة من خلال دراسة الكتب والأبحاث، فهي مجموعة من القيم المتغيّرة، والتي تحكمها متغيّرات اجتماعية وأوضاع اقتصادية وخلفيات أيدولوجية، لذلك لا يوجد نظام سياسي مثالي، فالديموقراطيات الحالية ليست مثالية، ولكنها طريقة قد تلبي بعضاً من إشارات الوعي الجديد بين الشعوب، لكن تظل تخفي خلفها مصالح كبرى وأيدولوجيات غير ظاهرة، ولا نحتاج أمثلة فمتابعة الانتخابات الأمريكية الأخيرة أوضحت مدى تداخل القوة مع الديموقراطية.

ربما تم العثور على تعريف جيد للفلسفة السياسية، بعد تحديد ما هي السياسة، وهو سؤال غامض في البداية، إذ يمكن تعريف السياسة على أنها «مسألة كيفية توزيع كمية نادرة من الموارد» بشكل عادل»، وهي، في الأساس، الطريقة التي يحصل بها الناس على السلطة والاحتفاظ بها وممارستها، لذلك فإن الفلسفة السياسية إذن هي دراسة النظريات الكامنة وراء السياسة، ويمكن استخدام هذه النظريات لاكتساب القوة أو لتبرير وجودها، ويتم استخدامها في الغالب لتبرير أو إضفاء الشرعية على وجود الهياكل السياسية المعاصرة من خلال مناشدة «العقلانية» أو «العقل» أو من بين أمور أخرى، «القانون الطبيعي».

بعد تخطي بضعة آلاف من السنين والعديد من النصوص المهمة، نصل إلى كتاب نيكولو مكيافيلي الأمير، الذي كتب عام 1513 ونُشر بعد وفاته عام 1532. عاش مكيافيلي في فلورنسا تحت حكم عائلة ميديتشي. خلال فترة قصيرة من الإصلاح، طُرد الميديسيون من السلطة، وأصبح مكيافيلي دبلوماسيًا قريباً من السلطة، ثم تم نفي ميكيافيللي بشكل أساسي، وكان أحد أسباب كتابته للأمير محاولة تقريب السياسة من طبائع الحياة العامة وحاجاتها في فلورنسا.

قبل ذلك بقرون عديدة وضع الخليفة الأموي معاوية، أسساً مبسطة لمدار العلاقة بين السلطة ومحاولة الخروج عنها؛ فقال يصف نفسه: إني لا أضع سيفي، حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي، حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. لم تكن شعرة العلاقة إلا ذلك الخط الرفيع بين السلطة ومنطق الحوار والموضوعية.

لذلك يمكن اختزال السياسة في فن الممكن، وهو تلك المحاولات الجادة لضمان استمرار الاستقرار من خلال مراعاة طبائع الناس وحاجاتهم قدر الإمكان، وهو ما خفي عن النظام الحاكم في سوريا على سبيل المثال، وفي مرحلة حكم القذافي، فقد وضعا حاجزاً عالياً بينهما وبين الناس، وبالتالي قطعا شعرة معاوية، وبذلك انقطعت العلاقة بين السلطة والإنسان، وحدثت الكارثة، لهذه الأسباب سقطت الشيوعية، وستسقط الأنظمة الشمولية كما هو الحال في إيران، والتي لا تحاول فهم متغيِّرات وعي الإنسان.. خلاصة الأمر لا توجد مثالية في الحياة السياسية، لكن تحكمها تلك القدرة الخفية على فهم متى تتقدّم السلطة، ومتى تتراجع عن بعض قراراتها، وهو ما اختزلته مقولة معاوية وشعرته في كلمات معدودة..