ها هي إدارة الرئيس جو بايدن توجّه ضرباتٍ أولى إلى إحدى الميليشيات العراقية الموالية لإيران، المتمركزة على الجانب السوري من الحدود مع العراق. وكان ردّ الفعل هذا هو الذي اتخذته القوات الأميركية في ديسمبر 2019 بعد استهداف قاعدة عسكرية في كركوك ومقتل مدني من المتعاملين معها وإصابة عدد من الجنود. إذاً، فهذا تدبير لا يتغيّر بتغيّر الإدارة في البيت الأبيض، ويخضع للتقويم الذي يقدّمه البنتاغون، لأن عدم الردّ يرسل إشارةً خاطئة إلى المهاجمين فيشجعهم على التكرار والتمادي، وهم قد يعاودون الكرّة في أي حال.
اعتبرت واشنطن ضرباتها الأخيرة بمثابة «معاقبة»، رغم أن «كتائب حزب الله العراق» التي استهدفت في البوكمال، مع فصيل آخر يسمّى «كتائب سيد الشهداء»، كانت قد تبرّأت من القصف الذي تبنّته «سرايا أولياء الدم» على مطار أربيل والقاعدة الأميركية المجاورة له. لكن التسمية التي يخلعها المهاجمون على أنفسهم لم تعد تعني شيئاً ولا تنطلي على أحد.
كانت الصواريخ على أربيل، منتصف فبراير، الواقعة الثانية من نوعها خلال عام، بعدما اتضح أن القوات الأميركية المنسحبة تنتقل من قواعد عراقية إلى أخرى في إقليم كردستان. أي أن الميليشيات أرادت توجيه إنذار إلى الأكراد بوجوب التخلّي عن استقبال الأميركيين، لكن هؤلاء لا يزالون منتشرين في المناطق العراقية، ولو بأعداد أقل، مع قوات تنتمي إلى دول «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب»، وتتعرّض قوافلهم لهجمات متكرّرة رغم مواكبتها من جانت الجيش العراقي.
في العراق، كما في كردستان، يوجد الأميركيون وسواهم من الأطلسيين بموجب اتفاقات موقّعة مع حكومتَي بغداد وأربيل، اللتين لا تزالان تحتاجان إلى إسناد جوي أميركي في المواجهة المستمرّة مع فلول تنظيم «داعش». لذلك فإن الحكومتين لن ترضخا لضغوط «الحشد الشعبي» الذي تحاول بعض ميليشياته الكبرى التمايز عن فصائل صغيرة، لكنها تُعتبر متشدّدة. ولا مصداقية لهذا الفرز الذي بات الخبراء يعتبرونه «توزيعاً للأدوار». فالميليشيات التي تصنّف نفسها «معتدلة» تتشارك مع تلك المتطرّفة العداء للأميركيين والسعي إلى إخراجهم بالقوة من العراق.
ورغم أن الرئيس بايدن هو مَن أجاز الضربات الأخيرة، من بين خيارات عدّة عُرضت عليه، فإنه حرص على ألّا تُظهر نيّة في التصعيد أو استعداداً للانجرار إلى مواجهة واسعة. وهذا ما أدّى إلى استبعاد قصف «كتائب حزب الله» داخل العراق، على غرار ما حصل مرّتين على الأقل خلال العام الماضي، لئلا يضيف إلى التوتّر المتصاعد، فيما تحاول حكومة مصطفى الكاظمي احتواء الميليشيات وتفادي مواجهة أهلية. ومع تأكيد وزير الدفاع الأميركي أن الهدف كان الميليشيا التي نفّذت الهجمات الأخيرة على أربيل، فإنه أشار إلى أن هوية الميليشيات معروفة ولا تضللها تسميات عشوائية.
ورغم الاتصالات الجارية تحضيراً لبدايةٍ ما للتفاوض على إحياء الاتفاق النووي، فلا يبدو أن سجال الضربة مقابل الضربة سيتوقف بين إيران (عبر الميليشيات) والقوات الأميركية، إذ أنه مرتبط بتجذير النفوذ الإيراني في العراق، وبملف السياسات الإقليمية لإيران الذي يُراد أيضاً التفاوض عليه. أما حصول الضربات الأميركية في الأراضي السورية فشكّل فرصة لموسكو كي تدعو واشنطن إلى استئناف الاتصالات بشأن الأزمة السورية، لكن إدارة بايدن لا تعتبر ذلك من أولوياتها الوشيكة.