تاريخ علمي نفيس، تختزنه مكتبة أعرق الجامعات العالمية، جامعة القرويين بفاس، من بين مكنوناته مخطوطات تضم ملاحظات ابن رشد، بخطه، على هوامشها، وأخرى تضم تاريخ ابن خلدون “كتاب العبر”، الذي حبّسَه على القرويين عندما حل بها، مفتتحا إياه بإهدائه الخاص.

وبعيدا عن الأيدي والأعين، تصون مكتبة القرويين مخطوطات عمرها قرون، ويعود بعضها إلى القرن الثاني الهجري؛ من بينها مصحف لا يزال في وضعية جيدة.

ومن بين مكنونات خزانة القرويين نسخة لـ”الفتوحات المكية” لابن عربي، أقر هذا العَلَم الصوفي بمطابقتها للأصل المكتوب، ومخطوطات للشاعر والسياسي الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب، وللفيلسوف الأندلسي ابن طفيل تضم إسهامه في تعليم علم الطب، عبر منظومة شعرية توجد نسختها الوحيدة المعروفة بهذه المكتبة.

كما تضم المكتبة مخطوطات لعالم الرياضيات المغربي ابن البنا المراكشي، والشيخ الجزولي صاحب “دلائل الخيرات” الذي جمع صلواته على رسول الله وخطّها بفاس وطَبَع مؤلّفه تاريخ التدين بالمغرب والعالم الإسلامي، وهو أحد “رجالات مراكش السبعة”.

ويعد المخطوط الذي يضم ملاحظات ابن رشد الحفيد على هامشه أقدم ترجمة موجودة اليوم لأرسطو إلى اللغة العربية، وهو مخطوط “الأخلاق إلى نيقوماخوس”.

وسنةَ 2011، صنفت منظمة اليونسكو مخطوط ابن خلدون، الذي قدمه إلى القرويين لـ”كتاب العبر” الذي تفتتحه “المقدمة”، ضمن التراث العالمي للإنسانية، في إطار برنامجها “ذاكرة العالم”.

وفي مستهل “تاريخ ابن خلدون”، يقرأ، تحت شهادة موقعة من قاضيين وكاتبه: “وقّف وحبّس وسبّل وأبّد وحرّك وتصدّق سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحقق أوحد عصره (…) أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن خلدون الحضرمي المالكي (…) وهو مؤلف هذا (…) الكتاب المسمى بكتاب العبر في أخبار العرب والعجم والبربر، المشتمل على سبعة أسفار، هذا أحدها، وقفا مرعيا وحبسا مرضيا، على طلبة العلم الشريف بمدينة فاس المحروسة قاعدة بلاد المغرب الأقصى، ينتفعون بذلك قراءة ومطالعة ونسخا وهو وقف في خزانة الكتب التي بجامع القرويين من فاس المحروسة (…) وقف لله على الوجه المذكور لوجه الله الكريم وطلب ثوابه (…) وأشهد عليه ذلك في اليوم أول الحادي والعشرين لشهر صفر (…) عام تسعة وتسعين وسبعمائة”.

وتضم هذه الخزانة مخطوطات لا تقتصر على الجانب الشرعي الإسلامي؛ بل تضم كذلك ما يهم الطب والرياضيات والتاريخ وغير ذلك من المعارف التي كانت تدرّس بجامعة القرويين، وهي جزء من مكتبة القرويين التي لم تغلق منذ تأسيسها، قبل ما يقرب 7 قرون، في وجه الطلبة والباحثين.

وقد شهدت هذه المكتبة، “خزانة القرويين”، تدشينا ملكيا سنة 2004، بعدما أعيدت تهيئتها، بعدما تم إصلاحها وتجهيزها، مطلع القرن الـ21.

ووفق عبد الفتاح بوكشوف، محافظ الخزانة، فإن جامعة القرويين تسعى إلى رقمنة هذا التراث، العربي الإسلامي، والإنساني، حتى يتاح الاطلاع عليه من طرف جميع الباحثين المعنيين، وحتى يبقى محفوظا للأجيال المقبلة.

في هذا الإطار، قال فوزي الصقلي، رئيس مهرجان الثقافة الصوفية، إن خزانة القرويين “تراث عالمي كوني، وهي من أقدم الخزانات في العالم الإسلامي، في جامعة القرويين التي هي أقدم جامعة ككل، قبل جامعات بولونيا (إيطاليا) وأوكسفورد (بريطانيا) والسوربون (فرنسا)”.

وتابع الصقلي في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “أسس المكتبة أبو عنان المريني، مؤسس المدرسة البوعنانية، التي كانت تكملة، مثل فرع للقرويين التي تأسست في زمن المرينيين، وأسست بعدها الدول الإسلامية المتعاقبة بالمغرب مدارس كبرى أخرى”.

وذكر الصقلي أن مقصد انطلاقة مكتبة القرويين هو “تخزين أمهات الكتب في مختلف العلوم التي كانت تدرّس آنذاك، ولم تكن تحضر فيها العلوم الدينية فقط، بل العلوم البحتَة كذلك (…) في تكامل كبير”.

وزاد المصرح: “تخزين هذه الكتب كان من طرف المؤلفين كذلك، الذين أرادوا دائما أن يوثقوا كتبهم، لتبقى لها مرجعية عالمية، وتحفظ النسخة الأصلية الحقيقية، وحتى ترجح نسخ القرويين دقة النسخ الأخرى”.

وسجل الصقلي أن “ما طبع الثقافة آنذاك هو جمعها بين العلوم النقلية والعلوم العقلية والعلوم الصوفية”، ثم استرسل موضحا: “هذا ما كان بالنسبة إلى ابن خلدون الذي أعطى للجامعة نسخة من “كتاب العبر” الذي يضم “المقدمة”، علما أنه مؤسس السوسيولوجيا أو العلوم الإنسانية، بقراءته العلمية للتاريخ، وقد كان متصوفا كذلك فخصص في “المقدمة” فصلا كاملا للتصوف، وخصص كتابا للتصوف هو “شفاء السائل وتهذيب المسائل”، الذي تحتوي المكتبة على نسخ منه طبعا”.

وزاد فوزي الصقلي: “تضم الخزانة، كذلك، النسخة الأصلية لكتاب “الفتوحات المكية” لابن عربي، وكذلك منظومة ابن طفيل الشعرية في الطب، وتتكلم على أمراض مثل السّكّري. وابن طفيل هو صاحب القصة الفلسفية “حي بن يقظان” التي لها أبعاد صوفية دقيقة جدا”.

وواصل المتحدث: “في هذه الخزانة، أقدم نسخة لكتاب أرسطو “الأخلاق إلى نيقوماخوس” مترجمة إلى العربية، مع شرح على الهامش لابن رشد”، قبل أن يتوقف قائلا: “هذه أشياء، حقيقة، بمجرد ما نراها يقع نوع من التأثر الكبير، ونرى أنه كانت استطاعة لحفظ أشياء عمرها يتجاوز 10 قرون، بل وتوجد نسخة من القرآن محفوظة بشكل هائل منذ القرن الثاني الهجري”.

وأضاف الباحث المغربي أن رفوف خزانة القرويين تضم مجموعة من الكتب العلمية الأخرى، لمجموعة من العلماء؛ من بينها رحلة ابن بطوطة، فـ”أبو عنان هو من طلب من كاتبه الخاص، ابن جُزَي، تدوين رحلة ابن بطوطة”. ونبه الصقلي إلى ما يوضحه هذا من دور “سلطان المغرب هذا الذي توفي وعمره 29 سنة، وقام بكل هذا العمل في وقت وجيز جدا، بعدما تولى الملك وعمره 19، وأثر بشكل كبير جدا في نحت الثقافة والحضارة المغربية، التي ستتطور وتكتمل في القرون التالية”.وفي ختام حديثه مع هسبريس، قال الأنثروبولوجي فوزي الصقلي إن “الجميل هو أنه الآن يجري التحول، لإشعاع هذه المعرفة، إلى رقمنة هذه الكتب، حيث ستصبح إن شاء الله قابلة للاكتشاف والقراءة من الجمهور العريض، وهذا ما سيعيد تجديد إشعاع هذه الذخيرة الموجودة للعلم، والفكر، وهو ما سيُذكي جذوتها، ودورها الموجود منذ القدم”.