(في ذكرى ميلاد الشاعر عمر الخيام - 18 أيار 1131م.)

كان اندريه مالرو أحد أكبر وزراء الثقافة في القرن العشرين ووزير ثقافة شارل ديغول الرئيس بين عامي 1959 و 1969، كان في بداياته لص آثارات وحوكم أمام القضاء الكولونيالي الفرنسي. هذا المثقف الذي بدأ مغامرا في أدغال كمبوديا سيكتب إحدى أهم روايات القرن العشرين في الأدب الفرنسي وهي "الشرط الإنساني" التي تؤرخ لشخصيات وأدوار في الحرب الأهلية الصينية وتحديدا في شنغهاي خلال انتفاضة قام بها الشيوعيون.. ولكن مالرو كوزير ثقافة سيطبع البنية المتحفية الفرنسية من خلال سياسته في إنشاء وتعميم المتاحف.

سيأتي جان جنيه ويحوِّل ظاهرة المثقف الأزعر إلى حالة أكثر ترسُّخا في الأدب الفرنسي. فمالرو الذي أحاطت به دائما أسئلةٌ عن مدى مصداقيته سيصبح أحد أعمدة الثقافة الفرنسية انطلاقاً من فوز روايته "الشرط الإنساني" بجائزة غونكور المرموقة في الثلاثينات من القرن المنصرم. ومرورا بأدواره اللاحقة.

الشيخ جعفر المهاجر ورغم كل “ضوابطه” السياسية والفقهية كرجل دين شيعي ومؤرِّخ يُوْرِد في كتابه عن "الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي" حوارا هائلاً بين السلطان الصفوي شاه عباس وبين العلامة والعالم بهاء الدين العاملي الذي بنى الجامع الشهير بتصميمه الفيزيائي الرائد من حيث تموجات الصدى داخله والموجود في ساحة أصفهان الإمبراطورية الصفوية إلى اليوم... يورد الشيخ جعفر قاضي الشرع السابق والمقيم في بعلبك حوارا جريئاً جدا بين السلطان الصفوي وبين بهاء الدين العاملي في القرن السادس عشر. فبناءً على معلومات وصلت للسلطان أن أقرب الفقهاء إليه الذي عيّنه في منصب شيخ الإسلام، وهو بهاء الدين العاملي، يتردّد كل ليلة على أكواخ في المدينة ويقضي وقته فيها فيستدعيه إلى مجلسه ويفاتحه بطريقة غير مباشرة بأمر سلوكه هذا ولكن بلطف شديد ينم عن مسايرة السلطان له ويقول له، أي السلطان للشيخ، أنه سمع أن عالما كبيرا "يعاشر الأرذال والفقراء" وأن شخصا بمكانته وقيمته كعالم كبير لا يجوز أن يعاشر "الأرذال" فيجيبه الشيخ بهاء الدين أنه يذهب كثيرا إلى تلك الأحياء ولم يلتقِ عالما كبيراً هناك!

لم يتراجع الفقيه وأصر على سلوكه. وحسب الرواية لم يَدّعِ الشيخ الكبير أنه يريد التبشير بينهم.

أخبرني مرةً أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي السابق إكمال الدين إحسان أوغلو والمرشح الأسبق للانتخابات الرئاسية التركية أن والده الشيخ الذي عاش في مصر فترة طويلة من حياته مما جعل من ابنه إكمال الدين ضليعاً باللغة العربية فضلا عن كونه أحد أبرز المختصين بتاريخ العلوم في تركيا والعالم المسلم.. أخبرني أن والده كان يقول مازحاً أن على رجل الدين أن لا يذهب إلى المساجد بل إلى الخمارات، لأن المساجد تعج بالمؤمنين الذين لا يحتاجون إلى وعظ وتبشير بل عليه أن يذهب إلى الخمارات حيث يتواجد غير المؤمنين.

لم يَدّعِ بهاء الدين العاملي أنه يريد التبشير بل اعترف أنه يمارس حريته كإنسان عادي. ليس فقط أن هذا التواضع من عالم كبير يثير الإعجاب ولاسيما شجاعته أمام أحد حكام العالم في تلك الحقبة الذي هو السلطان الصفوي، بل هذه المقدرة الاستقلالية من مثقف استثنائي سيستشهد بإحدى قصائده بعد ثلاثة قرون عالم رائد آخر هو الشيخ المصري رفاعة الطهطاوي صاحب الكتاب الشهير: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".

أرجو أن تكون هذه "الخبريات" مسلية رغم جدية مصادرها. أرجوها كذلك في سياق الدلالة على قوة التصميم الحر لدى مثقفين لا يرغبون أن يكونوا عبيدا ولا عمائم على عبيد وجهَلة حتى لو كان في سلوكهم تطرفٌ مثير للاستفهام.

صادرت الحركات الأصولية المعاصرة كلها المعنى الديني في العمل السياسي وأقامت لصالحها فصلا خبيثا بين الدين والأخلاق في العمل السياسي فأصبح القتل والاغتيال عملين مشروعَين ومبررين وراحت بصورة خاصة تقتل مثقفين أحراراً لا دماء على أياديهم في العمل العام بل صار الاختلاف في الرأي جرماً تقدّر مدى خطورته وعقوبته اعتبارات الحظر التحريمي.

فهمت الثقافة الليبرالية المعاصرة قوة الثقافة وحرمة المثقفين والمبدعين ولكنها أبقت تحت النقاش معايير الشطط الأخلاقي أو اللاأخلاقي للمثقف.

ممارسة السياسة تؤدي إلى اتساخ اليد هذا ما أراد جون بول سارتر قوله في مسرحيته "الأيادي الوسخة" وقد قال ذلك قبله وبعده مثقفون كثيرون ولطالما تجاوز مثقفون مبدعون كبار الحدود الدينية المرسومة من المتشددين، فإحدى رباعيات عمر الخيام تقول بترجمة أحمد الصافي النجفي:

لو كان لي كالله في فلكٍ يدٌ

لم أبْقِ للأفلاك من آثارِ

وخلقتُ أفلاكاً تدور مكانَها

وتسير حسب مشيئة الأحرارِ

هل من "تجديف" أعلى من هذا التجديف في نظر داعشيي اليوم حين يربط أحد أشهر شعراء التاريخ بين الإيمان والعبودية. لكن عهود الإسلام المزدهرة تخطت ذلك وقبلته في المجال الإبداعي.

للمثقف وهو يصطدم في كل لحظة بما توصله إليه الأسئلة الجوهرية من حقائق خطِرةٍ أو حتى احتمالات حقائق خطرة يستحيل أن يكون مؤمناً بالمعنى التقليدي والأكيد أنه يستحيل أن يكون أيديولوجيا.

أين يقف رجل الدين ذو الوظيفة الامتثالية عقائديا من مسؤولياته كمثقف؟

طه حسين "الأزهري" لم يكن يوما إلا "رجل دين" ولكن أي رجل كبير وأي عقل "ديني"! طرح أسئلة جوهرية لا تزال الأساسية بعد حوالي قرن

علي شريعتي المثقف الإيراني "الإسلامي" كان ناقدا دؤوبا لـ "المؤسسة الدينية" الشيعية ولم يكن بين من يمكن تصنيفهم ب "المثقفين الزعران"يقول في اثنتين من أشهر أقوال منسوبة إليه:

- إنّي أفضّل المشي في الشارع وأنا أفكّر في الله على الجلوس في المسجد وأنا أفكّر في أشياء تافهة....

- أُشفق على الفتاة حين تسوء سمعتها , فهي لا تستطيع تربية لحيتها لتمحو تلك الصورة.

ولن أضيف .... على لسان علي شريعتي صاحب النظرية (والمحاضرة الشهيرة) عن الفارق بين "التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي"، و"التشيع الأحمر والتشيّع الأسود"...