دخلت ليبيا فصلاً جديداً من الصراع، عنوانه الكبير مزيد من الخلافات، بل حتى احتمالات التوجه لسيناريو عودة المواجهات الأمنية في وقت كان يتطلع الشعب الليبي إلى تحقيق انفراجة حقيقية في المشهد الراهن ومساراته في ضوء تحركات الأطراف الفاعلة في الأزمة لإجراء الانتخابات، حيث وصف مجلس النواب الليبي القصف الذي استهدف الزاوية مؤخراً بأنه تصفية لحسابات سياسية، وليس لمكافحة التهريب كما يتردد، حيث أعلنت الحكومة في طرابلس مسؤوليتها عن توجيه ضربات جوية موجهة ضد أوكار عصابات تهريب الوقود، وكانت اشتباكات جديدة قد جرت بين قوات جهاز الردع واللواء 444 الموالية لحكومة الوحدة الوطنية، في مناطق متفرقة وسط طرابلس، وذلك رداً على قيام قوات جهاز الردع الذي يقوده عبدالرؤوف كارة باعتقال أحد قادة اللواء 444 الذي يشرف عليه محمود حمزة، وسط حشود عسكرية من الجانبين، الأمر الذي يشير في مجمله إلى أن الأزمة الليبية تتصاعد أحداثها في ظل استمرار الانقسام السياسي، حيث يعكس هذا التوتر الأمني بطرابلس، حجم المعضلة التي تعانيها ليبيا، في ظل سيطرة الميليشيات المسلحة المدعومة من الحكومة على مناحي الحياة في طرابلس وبقية مدن الغرب.

والواقع أنه لا يمكن استبعاد الهدف الحقيقي للعملية الأمنية، وانحصارها في رغبة رئيس الوزراء عبدالحميد الدبيبة بالقضاء على قوة مسلحة موجودة في «الزاوية»، وكذلك بمنطقة «الزنتان»، وتردد أنها بصدد شن هجوم عسكري خاطف لإزاحة حكومته، إلى جانب أن اشتعال صراع بالمنطقة قد يكون ذريعة جيدة للدبيبة لعدم المضي بإجراء الانتخابات.

وقد تزامن إطلاق العملية العسكرية مع حراك سياسي اتضح في التقارب اللافت بين الدبيبة والمشير خليفة حفتر، حيث تواترت المعلومات عن قرب إجراء تعديل وزاري بحكومة الوحدة الوطنية نتيجة تقارب الطرفين، وتصدع تحالف «حفتر» ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس الحكومة المكلف من المجلس فتحي باشاغا، نتيجة وقف الأخير عن العمل وتكليف وزير التخطيط والمالية أسامة حماد في حكومته بمهام رئيس الوزراء. إضافة لتجدد مطالبات مجلسي النواب والدولة بتشكيل حكومة جديدة التي أعلنتها اللجنة المشتركة لإعداد قوانين الانتخابات المكلفة من المجلسين (6+6)، وهو ما أعاد الأمل لإمكانية توحيد ليبيا، وتجاوز الجمود السياسي.

في هذا السياق من التطورات الجديدة، تكمن تطورات مفصلية عدة؛ أهمها استمرار عمل الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باتيلي بالاشتراك مع تركيا، حيث عُقدت أول جلسة عامة داخل ليبيا، وذلك لمجموعة العمل الأمنية المنبثقة عن لجنة المتابعة الدولية التابعة لمسار برلين، بهدف التوصل إلى توافق بين الدول الأعضاء المعنية حول الأزمة الليبية، وتقديم مظلة دولية لحماية المحادثات الليبية- الليبية بشأن مستقبل ليبيا، وتأكيد الممثل الخاص بأن تحديات جسيمة لا تزال مطروحة أمام مسيرة ليبيا نحو الانتخابات، بما في ذلك ضمان بيئة آمنة، ومعالجة معضلة التشكيلات المسلحة، والنهوض بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، إضافة إلى الدعوة لحل الميليشيات وإخراج المرتزقة وتوحيد مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية لمواجهة ظاهرة فوضى السلاح.

الواضح إذاً أن النخبة السياسية الليبية، والجهات المسلحة غير الحكومية، غير راضية بشكل عام عن الوضع الراهن، نظراً لأن مستويات العنف تتصاعد مع ارتفاع أسعار الطاقة العالمية وتأثيره على الداخل الليبي، وكان «باتيلي» قد طرح خطة بتشكيل لجنة تمرير رفيعة المستوى، تتكون من مختلف المكونات والهيئات والقوى الليبية، تتولى وضع قاعدة دستورية، وصياغة قوانين الانتخابات، وتحديد خريطة طريق بعد أن أكد فشل مجلسي النواب والدولة في إنجاز هذه المهمة، قبل أن يضطر إلى التراجع إثر إقرار التعديل الدستوري، وبذلك يكون المبعوث الأممي قد سلّم بأحقية مجلسي النواب والدولة بالاستمرار في قيادة العملية السياسية من جوانبها التشريعية، واعترف أيضاً بلجنة (6+6) المشكلة من المجلسين لحل النقاط الخلافية المتعلقة بقوانين الانتخابات.

وفي تطور لافت، شرعت أطراف ليبية في البحث عن بدائل ممكنة لتقلد السلطة، في ظل انسداد الأفق السياسي، وسط دعوات للعودة إلى دستور الاستقلال، واعتماد نظام ملكي لإنهاء الصراع القائم بين الفرقاء.

ويرى مؤيدو العودة إلى النظام الملكي في ليبيا، أن هذا الخيار لا ينهي فقط الصراع على السلطة، بل يحسم أيضاً حالة الفراغ الدستوري الذي تعيشه ليبيا، وكان سبباً من أسباب تعثر العملية الانتخابية، خصوصاً مع رفض أغلب الأطراف السياسية لمسودة الدستور الجديد التي أنجزتها هيئة الصياغة في عام 2017.

في المجمل، أن ما يجري في ليبيا من مشاهد وتطورات مرحلية، أمر مهم وفارق في طريق البحث عن توافقات جديدة تجمع بين خيارات سابقة، ومرجعيات مطروحة سبق وأن تم التعامل معها، وفشل أطراف المعادلة في الالتزام بها، وهو ما يشير إلى مسارات عدة متداخلة من الصعب توحيد منظومتها، والتعامل مع بنودها.
*كاتب متخصص في الشؤون الاستراتيجية.