لا يحتاج الفاقد لنعمة البصر، كي يحقق مجدا أو طموحا أو هدفا، إلا للإرادة والعزيمة والتصميم. هذا ما فعلته الأديبة والمحاضرة والناشطة الأمريكية هيلين كيلر، وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والمترجمة والإعلامية العمانية شيخة محمود الجساسي، والأكاديمية والمحامية السعودية الدكتورة وحي فاروق لقمان، والسعودي الشيخ عبدالله محمد الغانم (رئيس لجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين وأول رئيس للاتحاد العالمي للمكفوفين ومؤسس المعهد السعودي البحريني للمكفوفين بالمنامة)، وغيرهم. كل هؤلاء كانوا من فاقدي البصر، لكنهم كانوا من أصحاب البصيرة التي مكنتهم من متابعة خطاهم نحو النبوغ والحصول على أعلى الشهادات العلمية، ومن ثم الانخراط بثبات في خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم. وهذا أيضا ما فعله ابن الإمارات أحمد عبدالله العمران الذي سيكون محور حديثنا.

لم يعرف العمران اليأس، وشق طريقه وسط الظلمة بنجاح، مجتازا كل التحديات والعوائق، متعلما فن الانتصار من الهزيمة، واضعا نصب عينيه هدفا واحدا هو عدم الاستسلام وتحدي إعاقته وإثبات أنه لا يختلف عن المبصرين. ولهذ اختير ضمن الشخصيات الثلاث والأربعين الذين تم تكريمهم في الأول من ديسمبر 2014 بالتزامن مع احتفالات دولة الإمارات باليوم الوطني والذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس الاتحاد، ومُنح وشاح أوائل الإمارات على اعتبار أنه أول مواطن كفيف يحصل على شهادة الدكتوراه. وبهذه المناسبة، سُجل عنه قوله: «التكريم مبادرة رائعة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الذي عودنا دائمًا على مفاجآته الجميلة، وجمع شخصيات رائدة في المجتمع تستحق بالفعل الاحتفاء بها في جميع المناسبات. كان يوم التكريم بالفعل من أسعد أيام حياتي».

وُلد العمران في الشارقة عام 1984 ونشأ بها، ابنا لوالده عبدالله بن حميد بن عمران الشامسي المنتمي إلى عشيرة بن عمران من قبيلة الشامسي المتفرعة أصلا من قبيلة النعيمي. والشامسي من القبائل العربية التي ينتشر أفرادها بصفة أساسية في دولة الإمارات وسلطنة عمان، وبدرجة أقل في الكويت والبحرين وقطر وشرق المملكة العربية السعودية. وهي تنقسم إلى عشائر كثيرة، منها: بن رحمة وبن حارب وبن هادف وبن حميد وبن هزيم وبن ضاوي وبن مجيرن وبن عبدالرحمن، إضافة إلى عشيرة بن عمران.

لم يرَ صاحبنا الدنيا ومابها من مباهج وأشياء، ولم يتعرف على هيئته أو هيئات أهله ومن حوله لأنه وُلد فاقدا للبصر، لكن من حسن حظه أن والديه كانا من المتعلمين تعليما جيدا فتعاملوا مع إعاقته بمسؤولية وبشكل مثالي. وفي هذا السياق، قال في حوار مع صحيفة الخليج (28/‏‏12/‏‏2014) إن أهله «كانوا دائمًا يبحثون عن أفضل السبل الممكنة التي تساعدني على التكيف مع إعاقتي. قضيت سنوات من طفولتي وهم يسافرون بي مختلف دول العالم للبحث عن علاج، حتى استقر الأمر على تشخيص الأطباء بأنني أعاني ضمورًا في العصب البصري أدى إلى فقد كلي للبصر، وبمجرد إدراكهم أنه ليس هناك علاج لحالتي بدأوا البحث عن كيفية توفير التعليم لي والعيش بشكل طبيعي وسط أقراني».

بسبب إعاقته، ونظرا لعدم توافر تعليم للمعاقين آنذاك في مسقط رأسه بالشارفة، انتقل إلى إمارة دبي المجاورة من أجل الإلتحاق بمركز خاص لتأهيل ذوي الإعاقة، حيث درس بشكل منتظم مناهج وزارة التربية والتعليم العادية من الصف الأول وحتى الصف الخامس الابتدائي، مستعينا بطريقة برايل في القراءة والكتابة والترقيم والتشكيل والأعداد الحسابية. كانت تلك السنوات المبكرة من حياته بمنزلة الإعداد الأولي لما ينتظره. أما لماذا توقف عند الصف الخامس من دراسته في ذلك المركز؟ فلأن والده ارتأى أن يسافر إلى مكان آخر تتوافر فيه فرص تعليم أفضل لمن كان مثله كفيفا. ولم يكن هذا المكان الذي اختاره له والده سوى المملكة العربية السعودية التي قال عنها إنها «كانت في تلك الفترة متقدمة كثيرًا عن الإمارات، ومناهجها أقوى في تعليم ذوي الإعاقة».

وهكذا حلّ العمران في وطن لا يعرف فيه أحدا، وكاد أن يعاني تباريح الوحدة وفراق الأهل والخلان لولا أن العائلة التي أقام عندها في السعودية كانت تمت له بصلة قرابة، ما خفف عنه بعضا من شعوره بالاغتراب. وهكذا مرت عليه السنة تلو الأخرى وهو يكافح من أجل اجتياز مرحلتي الدراسة الإعدادية والثانوية بنجاح كالأصحاء. وبالفعل تحقق له ما أراد بفضل الله ثم بفضل إرادته الصلبة ومساعدة أقاربه. وفور ظهور نتائج اختبارات الثانوية العامة تقدم بأوراقه في عام 1996 إلى جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض لمواصلة دراسته الجامعية. ولعلمه المسبق بأن التخصصات الجامعية المتاحة أمام المكفوفين في العالم العربي محدودة جدا، ولمعرفته المسبقة بأنه لن يُسمح له إلا بالإلتحاق بالتخصصات الأدبية - بعكس الجامعات في الدول المتقدمة التي باتت تستقبل ذوي الإعاقة في تخصصات الهندسة والعلوم والرياضيات والحاسوب بعد أن وفرت لهم البيئة المناسبة والأجهزة الخاصة لمواصلة تعليمهم - فقد قرر أن يتخصص في الشريعة والقانون. ومرة أخرى يثبت الرجل أنه عصي على الهزيمة فينال درجة البكالوريوس في تخصصه بتفوق من جامعة الإمام محمد بن سعود في عام 2001.

وهنا غامره شعور بأن درجة البكالوريوس لم تعد في وقتنا الحالي وسيلة للحصول على عمل مناسب بالنسبة للشخص السليم، فما بالك بالكفيف، فسأل نفسه لماذا لا يواصل دراسته في الجامعة ذاتها طالما أنه اعتاد على بيئتها وتعرف على طلابها وأساتذتها وطاب له المقام في الرياض؟ ومن بعد تفكير لم يستغرق منه وقتا طويلا قرر البقاء لنيل درجة الماجستير في القانون المقارن من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود، وهي الدرجة التي نالها في عام 2003.

روى العمران للصحافة بعضا من المتاعب التي واجهه خلال سنواته الجامعية فقال ما مفاده أن المناهج الدراسية كانت مكتوبة بالخط العربي العادي، وبالتالي لم تكن مناسبة لطالب كفيف مثله يعتمد على طريقة برايل في القراءة، فاعتمد على تسجيلات صوتية للمحاضرات، لكن شرائط الكاسيت المتضمنة للمنهج الدراسي لم تكن تصله من إدارة الجامعة إلا قبل يومين من تاريخ الإمتحانات، وبالتالي لم يكن أمامه وقت كاف للمراجعة، واعتمد كذلك على إستعارة كراسات زملائه التي كان يقرأها عليه أشخاص بمقابل مادي في الساعة، لكن المشكلة هنا كانت في «رداءة خطوط بعض الزملاء الذين كنت استعين بدفاترهم، فكان من يقرأ لي تواجهه فك الطلاسم التي يكتبونها» بحسب قوله.

على إثر نيله درجة الماجستير عاد إلى وطنه شابا في الرابعة والعشرين بعد أن خرج منه طفلا في الحادية عشر، ليبدأ مشوار البحث عن وظيفة تناسبه ويستطيع من خلالها العطاء كما يجب. كان سقف طموحاته وقتذاك بلا حدود، وكان قد هيء نفسه للعمل في سلك التعليم الجامعي. غير أنه اصطدم بالنظرة السائدة في المجتمع الأكاديمي من تلك التي تقلل من قيمة الكفيف، وإنْ كان حاملا لشهادات عليا. كان الرد الذي تلقاه ممن بعث لهم شهاداته من أجل التوظيف أنه لن يستطيع الإلتحاق بالجامعة للتدريس، وكان التبرير هو صعوبة العمل كمحاضر لمن كان مثله كفيفا لجهة ضبط قاعات الدرس وعقد الامتحانات وتصحيح أوراقها، وغير ذلك من المبررات. كانت تلك صدمة وخيبة أمل لم يتوقعها ولن ينساها، بل كانت إشعارا مبكرا له بسيادة وطغيان النظرة النمطية تجاه الشخص المعاق والمتمحورة حول أنه عالة على الآخرين ولا يستحق سوى العطف لأنه غير قادر على العمل وإثبات ذاته واستقلاليته.

كانت هناك - بطبيعة الحال - فرص وظيفية أخرى متاحة أمامه في القطاع الحكومي، لكنه في ظل إصراره على العمل الأكاديمي، قرر أن يعود إليهم بشهادة أعلى على أمل أن تكون نظرتهم ومواقفهم من الكفيف قد تغيرت. وهكذ طلب منحة دراسية من الجهات المسؤولة لنيل درجة الدكتوراه في الخارج. وبالفعل مكنه المسؤولون وعلى رأسهم الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان (وزير التربية والتعليم والبحث العلمي في تلك الفترة) من تحقيق رغبته، حيث تمّ اعطاؤه منحة للدراسة في بريطانيا على نفقة الدولة.

وعليه سافر إلى انجلترا في نهاية عام 2004، ليبدأ مشوار دراسيا جديدا وحياة اغتراب أخرى، وتحديات مختلفة عن تلك التي واجهته في السعودية كون بلد دراسته هذه المرة بلدا أوروبيا لا يعرف فيه احدا على الإطلاق وليس به قريب له يأخذ بيده ويرعاه. وهناك إلتحق أولا بأحد المعاهد البريطانية المتخصصة في تعليم اللغة الإنجليزية، وبعد أن شعر بأنه صار متمكنا من هذه اللغة قراءة وكتابة وتخاطبا إلتحق ببرنامج الدكتوراه في جامعة إسيكس University of Essex الواقعة بالقرب من مدينة كولشيستر. وفي هذه الجامعة، أمضى أربعة أعوام ونصف اعتاد فيها على الحراك دون مرافق إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في القانون الخاص من بعد نحو خمس ساعات من مناقشة أطروحته التي حملت عنوان «تعزيز حق العمل للمعاقين في دولة الإمارات العربية المتحدة: دروس مستفادة من تجارب دولية».

والحقيقة أن اختياره لموضوع أطروحته هذه كان بتأثير من تجربته الذاتية لجهة فشله في العثور على مكان في سلك التعليم الجامعي على نحو ما فصلناه آنفا. لذا فإنه في مرحلة كتابة الأطروحة إنكب على دراسة الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ولا سيما تلك المتعقلة بمعالجة التمييز ضد ذوي الإعاقة والفئات المهمشة، وتبحر في تجارب الدول المتقدمة وتشريعاتها لحماية هذه الفئات في المجتمع وصيانة حقوقها في العمل والمساواة بينها وبين الفئات الأخرى، ليخرج بنتيجة مفادها أن مفهوم الدمج الوظيفي في تلك الدول متطور بشكل كبير وأنه حان الوقت لمجتمعاتنا أن تستفيد من ذلك المفهوم وتضيف إليه.

وخلال فترة دراسته في بريطانيا، وتحديدا بعد مضي نحو عام عليه هناك، قرر أن يتزوج ويكوّن أسرته الصغيرة فاختار شريكة حياته من أسرة إماراتية واعية ومؤمنة بطموحاته وأهدافه في الحياة، دون أدنى تقليل من شأنه كونه كفيفا. يقول العمران في هذا السياق إن المكفوفين في الإمارات كانوا سابقا يواجهون صعوبة في الزواج من مواطناتهم، فكانوا يلجأون للزواج من الخارج، لكن الأحوال تبدلت اليوم.

لكن هل عاود صاحبنا البحث عن وظيفة أكاديمية بعد عودته إلى وطنه مكللا بدرجة الدكتوراه؟ الحقيقة - كما ذكرها بنفسه في حواره المشار إليه آنفا - أنه سعى إلى ذلك، وصادف في أثناء البحث أن المؤسسات الحكومية بحاجة إلى تخصصه، فتم منحه في عام 2011 فرصة التوظيف بوزارة الشؤون الاجتماعية للعمل باحثا متخصصا في حقوق الإنسان وحقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة. ويبدو أن الرجل شعر بالارتياح من وظيفته بهذه الوزارة وأدرك صواب اختياره بعد أن قدم له الفريق العامل معه كل أنواع الدعم والتقدير ووفر له جميع السبل والإمكانات والأدوات والبيانات ليعمل على تطوير التشريعات ذات الصلة بحماية حقوق ذوي الإعاقة ودمجهم في المجتمع وتوفير بيئة آمنة ونموذجية لهم.

وبعد أن تطورت مهاراته وقدراته العملية، خرج من وظيفته بوزارة الشؤون الإجتماعية والعمل لينضم إلى الطاقم الإستشاري لسياسات واستراتيجيات التنمية المستدامة في المجلس التنفيذي لإمارة دبي، حيث شرع في العمل بدءا من عام 2016، وفي العام التالي تحقق ما دعا وطالب به طويلا، وذلك حينما تشكل «المجلس الإستشاري لأصحاب الهمم»، من 15 فردا برئاسته، وذلك من أجل تنفيذ السياسات التي أطلقهاالشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتمكين ذوي الإعاقة (تم تغيير هذا المصطلح الشائع إلى ذوي الهمم)، ودمجهم في المجتمع، وإلغاء كافة الحواجز التي تعيق تمتعهم بحياة كريمة ذات مستوى جيد، وتمنحهم مختلف الخدمات بسهولة ويسر. وبهذه المناسبة صرح العمران قائلا (بحسب ما نقلته الصحافة الإماراتية في مايو 2017): «إن إعلان السياسة الوطنية لتمكين أصحاب الهمم ينسجم بشكل كبير مع الاتفاقيات الدولية لذوي الإعاقة، لكونها أكدت أهمية مواءمة الدول الأعضاء للسياسات والتشريعات المحلية بما يتلاءم مع نصوص الإتفاقية الدولية».

وبصفته الوظيفية الأخيرة شارك العمران في بعض المؤتمرات ذات العلاقة بتخصصه، ومنها الدورة العاشرة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية حقوق المعاقين التي عقدت تحت عنوان «العقد الثاني لإتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة» في نيويورك عام 2017، حيث جدد باسم بلاده التزام دولة الإمارات بالخطة الحضرية الجديدة المعتمدة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالإسكان والتنمية المستدامة في كيتو بالإكوادور عام 2016، واستعرض جوانب من إنجازات بلاده لجهة إدماج ومشاركة ذوي الإعاقة في المدن والمستوطنات الحضرية، ونوه بالسياسات الوطنية لتمكين أصحاب الهمم في الإمارات بمحاورها الستة (الصحة وإعادة التأهيل، والتعليم، التأهيل المهني والتشغيل، وإمكانية الوصول، والحماية الاجتماعية والتمكين الأسري، والحياة العامة والثقافة والرياضة).

وأخيرا، فطوال مسيرته العلمية والمهنية كان رفيقه الدائم هو الكتاب وعشقه الأبدي هو القراءة، ولا سيما في كتب التاريخ والسياسة والقانون، وكان يمزجها بقراءة الروايات الأجنبية في أوقات فراغه، مفضلا إياها على كتب الرواية العربية بسبب ضعف محتواها كما قال. وكانت مواقع التواصل الاجتماعي هي سبيله للبحث عن آخر الإصدارات الجيدة، دون ان يتجاوز ذلك إلى إضاعة وقته باستغلال هذه المواقع للتعبير عن توجهاته وآرائه الخاصة حول هذا الموضوع أو ذاك. وحول شغفه بالقراءة قال لصحيفة الإمارات اليوم (9/‏‏7/‏‏2016) إن القراءة هي هوايته الأهم وإنه يقرأ سبعة كتب شهريا، خصوصا أن مطالعة الكتب المطبوعة متاحة بطريقة برايل، كما أنها باتت اليوم متوافرة بالطريقة الصوتية على الأجهزة الذكية، وبالتالي لم يعد هناك أي عذر لفاقد البصر كي يمتنع عن تطوير نفسه بالقراءة.