في يوم الإثنين، 30 أكتوبر 2023 الماضي، صدرت صحف الكويت مزينة بعناوين خرجت من اللقاء الصحافي الذي رتبه معالي الشيخ سالم عبدالله الجابر مع الصحافيين حول تطورات الوضع في غزة وتعقيدات العدوان الإسرائيلي على القطاع الفلسطيني الذي تتحكم منظمة حماس في إدارته، والتي دبرت خطة الغارة على الجوار الإسرائيلي المحاذي لمنطقة غزة، وبسببها انطلقت اسرائيل في الانتقام، وكما قال الوزير الكويتي: فأحداث غزة الحالية هي عمليات انتقامية لتلك الغارة الحماسية.
تحدث الوزير في ذلك اللقاء بإسهاب عن قناعة الكويت بالنهج الذي احتضنته منذ الاستقلال وخلاصته لا اعتراف ولا صلح ولا علاقة مع اسرائيل، طالما لم تتحقق شروط إقامة الدولة الفلسطينية على الضفة الغربية وغزة وحدودها الخامس من يونيو 1967، وعاصمتها القدس، مع إلحاح قوي على التمسك بهذا الموقف الصلب دون التأثر بالتحولات التي قد تطرأ على القضية الفلسطينية.
والواقع أن وزير الخارجية الكويتي في ندوته الصحافية سلط الضوء على نهج الكويت القديم الذي رافقها منذ الاستقلال، مع صلابة دبلوماسية كويتية تقف بعيداً عن أي تبدلات تصيب المواقف العربية، وتتحصن بهذه الحدة لتأمين استمرار الكويت في مقاومة عواصف التغيير.
جاءت مفردات الوزير لتأكيد دبلوماسية الكويت المتوارثة في كفاحها مع قضايا فلسطين، مؤكداً عمق الالتزام بالخطوط التي تتشكل منها القناعة الكويتية، وهي نفس المكونات التي تجذرت في جسد الدبلوماسية منذ انضمام الكويت للجامعة العربية في يوليو 1961، وهنا لا بد لي أن أشير إلى الشروط التي رافقت قبول الكويت كعضو في الجامعة، وهي سحب القوات البريطانية من الكويت وتبديل قوات عربية بها تشكل الرادع السياسي المعنوي لتأمين استقلال الكويت، والحفاظ على أمنها وسيادتها، وتأكيد حقها في اختيارها الانضمام لأي جهة عربية، وتأييدها للانضمام للأمم المتحدة.
جاءت هذه القواعد كموقف عربي ضد ادعاءات حكومة العراق بتبعية الكويت.
وتحدد هذه القواعد الفضاء الدبلوماسي الذي تتحرك فيه دولة الكويت، وهي تعريب آليات الدفاع عن الكويت وتأكيد ابتعادها عن الدول الكبرى وحصر أمنها في الإطار العربي، وعلى المسؤولين الكويتيين احترامها والتمسك بها دون الخروج من دائرتها.
تبنت الكويت هذه التوجهات بارتياح توفر لها من موقف عربي ثابت لم يأخذ في حساباته تبدلات المستقبل التي قد تمس العلاقات الثنائية مع العراق.
في عام 1963، تولى المرحوم الشيخ صباح الأحمد وزارة الخارجية، وفي يناير 1964، كنت مديراً لمكتب الوزير، منفذاً تعليماته، مرافقاً في سفراته، ومدوناً اجتماعاته، وشاهداً على شدة وفائه لمعاني الآليات العربية التي قررتها الجامعة العربية للدفاع عن الكويت، مع الحذر المتشدد من الدول الكبرى وبالذات بريطانيا والولايات المتحدة، تحولت دبلوماسية الكويت نحو تعزيز الردع العربي، والحرص على تأكيد التضامن العربي مع أريحية في التحرك لتجاوز التباعد بين العرب، في زمن عربي يتميز بصراعات وصدامات سياسية وعسكرية بين المحافظين وبين الثوريين العسكريين، الذي تحكموا في القاهرة وبغداد وبعدها ليبيا واليمن والسودان وسوريا.
استمرت الجهود الكويتية دون أن تتوقف، كما أنها تميزت برقة المفردات ولطافة الأسلوب الذي تميز به الشيخ صباح، ولا سيما في تعامله مع ممثلي الدول التي سيطرت عليها الجيوش العربية، مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا، مع حمايته للموقف الكويتي دون التأثر باحتمالات المستقبل ومفاجآته.
كما تطوع الشيخ صباح الأحمد لمواجهة الأزمات بين العرب إيماناً منه بأن سلامة الكويت في وحدة العرب، وأن أمنها مترابط بقوة التضامن العربي، كما تطوع لقيادة اللجان التي تشكلها الجامعة لحل المشاكل بين الدول العربية، وقيادة الوفود العربية التي تشرح مواقف العرب للعواصم الكبرى، وآخرها ترؤسه اللجنة العربية السباعية لشرح مواقف العراق خلال الحرب العراقية – الإيرانية.
كنت مع المرحوم الشيخ صباح الأحمد في سيارته يوم الغزو متوجهين إلى الحدود السعودية، كان صامتاً حزيناً من خيانات لم يتوقعها وسلبيات عربية عاجزة هدمت أركان النظام العربي الذي كرَّس الشيخ صباح كل جهوده لصلابته، مع إيمانه القوي بأن سلامة الكويت أمانة في أعناق العرب.
ومع الغزو وبروز حقائق الدول العربية، أغلقت الكويت فصل الاجتهاد في الردع العربي الجماعي، وآمنت باليقين بضرورة توفير الرادع الفعال والمؤثر الذي يضمن الاستقلال لها، ويمنح شعبها الطمأنينة، ويخلصها من الاتكال على بيانات تصدر من الاجتماعات العربية فيها نغمة مريحة لكنها لا تملك الإرادة الفاعلة.
كان الغزو درساً لنا جميعاً، وأهم ما تعلمناه السعي للابتعاد عن دبلوماسية السقف العالي والتصلب الناشف في المواقف، والبدء في التآلف مع نهج الممكن المتميز بالمرونة، والانفتاح على جميع المسارات التي قد تؤدي إلى النجاح، والأهم من كل ذلك، الإيمان القوي بضرورة تواجد آليات الردع، التي تضمن السلامة، وتعمق جذور الاستقلال وتصون السيادة، وبهذا التحول الواقعي دخلت الكويت مرحلة الشراكة الاستراتيجية مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة، وتداخلت في شراكة دائمة مع دول مجلس التعاون أمنياً ودفاعياً وحياتياً، كما انفتحت أبوابها الدبلوماسية مع الجميع، بمن فيهم من تخاذل يوم الغزو، من عرب وغيرهم، وصار الرمز الدبلوماسي – الكويت صديق للجميع، والحقيقة أن الشيخ صباح الأحمد هو من ارتفع فوق الآلام وأعاد الاتصال مع زعامات التخاذل في شمالي أفريقيا والسودان والأردن واليمن، والملاحظ أن الزعامات التي أساءت التقدير تلاشت نهائياً.
وأود الإشارة إلى أن محتوى الدبلوماسية الكويتية الحاضرة يختلف تماماً عن المحتوى القديم، ومن أبرز علامات التباين يتجسد في الشراكة الاستراتيجية مع لندن وواشنطن التي لم يكن ترابطنا معها متميزاً بالحميمية التي نعيشها الآن، وعلينا جميعاً التمسك بهذا الترابط الذي يؤمن للكويت وشعبها التفاعل مع حقائق الحياة وأهم دروسها بأن الكويت بحاجة ماسة إلى رادع قادر على المشاركة في تأمين استقلالها وسيادتها ويطمئن شعبها بأن حياته مضمونة، فالكويت لا تستطيع أن توفر بمفردها شروط الاستقرار.
هنا تغييرات جوهرية أدركها شعب الكويت من خلال مأساة الغزو:
أولها: استمرار الأطماع وغياب الاطمئنان وتواصل الاضطراب الإقليمي المجاور، وتكاثر الشكوك في النوايا، ومن هذه الأجواء يتولد القلق لدى شعب الكويت ويغيب عنه الارتياح.
ثانياً: مساحة الكويت الجغرافية، ومحدودية السكان، وتملكها لمصادر الطاقة وصحراوية أراضيها، تفتح شهية الحالمين بالتشويش والضغط والانتفاع مما تملك، والاستفادة من الانكشاف الأمني.
ثالثاً: من هذه الحقائق أدركنا جميعاً وبالإجماع ضرورة توفر شركاء استراتيجيين تلتقي فيها المصالح وتتداخل فيها ضرورات التعاون والترابط، وقد خرجت من هذا الواقع، الترتيبات الأمنية مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
رابعاً: ومن هذا التطور الجوهري، ألغت الكويت نشافة التصلب في المواقف واتجهت لممارسة المرونة في العمل الدبلوماسي، وفي البحث عن حلول واقعية للقضايا المعلقة، ومن ضمنها التعامل مع الجهود العربية والإقليمية والعالمية في بحثها عن حلول واقعية للقضية الفلسطينية.
وأهم المستجدات التي دخلت دبلوماسية الكويت التخلي عن الإصرار القديم على أننا أكثر وفاءً للحق من غيرنا، نتحمل أشواك وأثقال ذلك الإصرار باعتزاز وكبرياء.
تحملت الكويت الكثير من المشاغبات من الثوريين العراقيين، كنت متابعاً لها ولا سيما في الستينيات من القرن الماضي، والكويت اليوم غير الكويت الماضي، فالغزو أتى بالجديد في الدبلوماسية الكويتية، وعزز من حساسيتها الأمنية وأدخلها في شراكة استراتيجية دائمة، قائمة على تبادلية المنافع واستدامة الثقة بين الشركاء.
التعليقات