ثقافة المجتمع العراقي قائمة على التنوع المفيد والمثري، وهي تنعكس في سلوك العراقيين وطباعهم على نحو واضح وملحوظ. كان المجتمع العراقي، بعربه وكرده وجميع طوائفه ومذاهبه ومكوناته.. متعايشاً ومنسجماً مع ذاته قبل العام 2003، لكن بعد ذلك أُصيب في توازناته الناظمة لانسجامه وتعايشه التاريخي، فتفرّق العراقيون طرائق قِدداً.
وكان المؤرخ وعالم الاجتماعي العراقي الدكتور علي الوردي (1935- 1995)، الذي تبنى النظريات الاجتماعية التنويرية وجمع بين رجاحة الفكر وبساطة الأسلوب، قد وصف شخصية المجتمع العراقي أحسن توصيف، وشخّص أدواءَها الفكرية والأخلاقية على نحو شديد الدقة، فحرّك الساكنَ بنقده الحاد لهذا المجتمع، لاسيما حين حلل نمط الشخصية العراقية وأسلوبها في كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، الصادر في عام 1965، إذ وصف هذه الشخصية قائلاً إنها تختلف عن أي شخصية أخرى في العالم.
لقد رأى الوردي أن العراقي متطرف في كل شيء، في شجاعته وعدمها، في كرمه وبخله، في وطنيته وفي تخليه عنها، في تديّنه ومجونه.. كما أنه عاطفي جداً، لكنه عنيف إلى حد الدموية.. وهكذا دواليك. أو باختصار شديد، إنه شخصيات في شخصية واحدة!وفي هذا الصدد يقول الوردي في نقد لا يخلو من حدة ومبالغة: «المجتمع العراقي يعاني ازدواجيةً بشكل مركّز ومتغلغل في الأعماق، فالعراقي كثير الهيام بالمُثل العليا في خطاباته وكتاباته، لكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عنها»!
الشعب العراقي حين يفوز منتخبه الوطني على الخصم في لعبة رياضية، يملأ الساحات والمدن والشوارع بأفراحه ويتوحد بكل مناطقه ومحافظاته وقومياته ودياناته ومنابعه وأطيافه.. ويلتف صفاً واحداً خلف منتخبه الرياضي، يؤازره بشدة، داخل العراق وخارجه، فيبدع في التشجيع، سواء بالأناشيد الوطنية، أو الأهازيج الشعبية، أو العبارات الرياضية المشجعة.. ويتحول الاحتفال إلى كرنفال تؤديه فرقة وطنية واحدة بألوان الطيف العراقي، تحت العلم العراقي الواحد، وبصوت موحد لتشجيع منتخبهم المتأهل، الذي يضم لاعبين من مختلف القوميات والطوائف والمناطق.
وفي هذا السياق فقد قابلتُ ذات مرة، قبل عدة أعوام من الآن، أحدَ المقاتلين السابقين في البيشمركة، وكان عمره يتجاوز الثمانين، وأخبرني قائلاً: كنا نقاتل ضد الجيش العراقي بضراوة في جبال كردستان العراق، لكن حين يلعب المنتخب العراقي مع منتخب دولة أخرى كنا نتوقف عن القتال ونتفرغ لمشاهدة المنتخب العراقي، وحين يفوز نطلق الأعيرة النارية في الهواء، فرحاً وابتهاجاً بالفوز، ثم نعود للقتال بلا هوادة! العراقيون في السياسة متفرقون ومتخاصمون، في الداخل والخارج، حول معظم القضايا الوطنية والأمور السياسية والطائفية، ولا يزال بلدهم يعاني المحاصصةَ الطائفيةَ، والشحنَ المذهبي والنعرات القبلية.. حتى إنهم إلى الآن لم يفلحوا في انتخاب رئيس للبرلمان بعد إبطال عضوية رئيسه.
ولو التف العراقيون حول مؤسساتهم الوطنية، كما يلتفون حول مدرب فريقهم ولاعبيه.. فسيتحدون على مسار بلدهم ونهجه، بعيداً عن الخلافات القومية والطائفية والمذهبية الطارئة التي تفرّق الأوطانَ وتفتك بها!
التعليقات