الذين طالعوا شيئاً من تاريخ مصر قبل 1952، يعرفون أن لجنة بعينها اشتهرت جداً في تلك الفترة، وأن اسمها الذي عرفناها به هو لجنة «ملنر»، وأنها لجنة بريطانية كانت الحكومة في لندن قد بعثت بها إلى القاهرة.

لكن المهم فيها لم يكن اسمها، ولا غيره من الأمور؛ بل الأهم أن اتفاقاً غير مكتوب جرى بين المصريين على مقاطعتها تماماً. فلما وصلت اللجنة قاهرة المعز بدا لها الأمر وكأن مصر قد خلت من الناس، أو كأن الأرض قد انشقت وابتلعت كل المواطنين.

كانت كلما فكرت في اللقاء مع أحد من الساسة تبخر، ولم تجده أمامها ولا في أي مكان. وكانت كلما دعت أحداً إلى لقاء معها أخلف وعده ومضى إلى حيث لا تجده، ولا يقع عليه أحد من أعضائها. وكانت كلما قالت إنها جاءت مجردة من أي أفكار حكومية بريطانية مسبقة لم يصدقها أي مصري. وفي النهاية اكتشفت أنها تكلم نفسها، وأنها معزولة ومنعزلة على صورة لم تصادفها أي لجنة مثلها من قبل. ولم تجد مفراً من العودة إلى حيث جاءت، وهي في غاية الذهول مما وجدته من يوم وصولها إلى يوم أن غادرت.

والذين طالعوا شيئاً من سيرة المهاتما غاندي في الهند، وجدوا أنه مارس مع الإنجليز في بلاده ما مُورس مع لجنة «ملنر» في القاهرة، وأنه على ضعف بنيته كان أقوى من الإمبراطورية البريطانية على اتساعها، وأنه لم يفعل شيئاً سوى أنه دعا إلى المقاطعة في مواجهة كل بريطاني، وأن هذا السلاح في يده كان أقوى من كل سلاح عرفته بريطانيا إلى ذلك الوقت؛ بل وإلى ما بعد ذلك الوقت؛ لأنه سلاح أثبت -ويثبت- فعاليته العالية، رغم إنه لا يكلف صاحبه شيئاً ذا بال.

ولم يكن غريباً أن يتفاعل سلاح المقاطعة في مصر والهند معاً، على ما بينهما من بُعد المسافات، فالمحتل كان واحداً، والرغبة في مقاومته كانت رغبة فطرية وواحدة أيضاً، كما أن غاندي عاش يقول إنه شديد الإعجاب بسعد باشا زغلول، وأنه يراه -بالنسبة له- بمنزلة المُعلِّم الذي يتعلم منه كثيراً من الدروس في كل يوم.

هذه مقدمة طالت بعض الشيء، ولكن هناك ما يبرر طولها؛ لأن الهدف هو أن يصل المعنى من ورائها إلى حكومة التطرف في تل أبيب، وهي تتحدث هذه الأيام -بعد أن استأنفت حرب الإبادة على الفلسطينيين في قطاع غزة- عن تطبيع يمكن أن يقوم بينها وبين الحكومة في دمشق مرة، أو بينها وبين الحكومة في بيروت مرة ثانية، أو بينها وبين حكومات أخرى على امتداد المنطقة، تتصور حكومة التطرف أن تطبيعاً يمكن أن يقوم معها في عواصمها مرة ثالثة.

يطالع المرء ما يتردد من أحاديث التطبيع، ولا يعرف كيف يمكن أن يقال هذا من سياسي عاقل في تل أبيب، أو حتى في واشنطن التي لا تخلو هي أيضاً من مثل هذه الأحاديث، ولا من أن التطبيع الذي تتحدث عنه الإدارة فيها أقرب ما يكون إلى أن يتحقق اليوم منه في أي وقت آخر!

ولا بد من أن الذين يرددون مثل هذه الأحاديث في العاصمتين مصابون بنوع من الحَوَل الذي يجعلهم لا يرون إلا بعين واحدة، أو يجعلهم يرون زاوية من الموضوع ولا يرون بقية زواياه، أو يجعلهم يرون الحكومات في العواصم العربية التي يقصدونها، ولا يرون في المقابل أن في هذه العواصم شعوباً من لحم ومن دم، وأن التطبيع بمعناه الحقيقي هو مع الشعوب لا مع الحكومات، مهما قيل عنه إنه تطبيع، ومهما جرى تزيينه في عيون الناس.

الدرس الذي خلَّفته لجنة «ملنر» من ورائها يقول هذا، والدرس في سيرة المهاتما يقول هذا أيضاً ويؤكده، والذين يتعامون في واشنطن وفي تل أبيب عن الدرس في الحالتين إنما يضحكون على أنفسهم، ولا يضحكون على الناس هنا في المنطقة؛ لأنهم هُم الذين يصنعون التطبيع ويجسدونه على الأرض إن شاءوا، وهُم الذين يفرغونه من معناه تماماً، فلا يكون تطبيعاً ولا يحزنون، ولو قالت عنه الدنيا كلها إنه تطبيع.

حساب حكومة التطرف على المقتلة في أرض فلسطين هو مع آحاد الناس وبسطائهم في كل قُطر عربي؛ لأنهم يتابعون ما يدور من قتل ومن تقتيل، ويتمنون لو استطاعوا تغيير الوضع بأيديهم، فإن لم يستطيعوا فبلسانهم، فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم، وهذا أضعف الإيمان؛ على حد قول الحديث النبوي الشريف. ورغم أن الكلام في هذه الحالة الأخيرة هو عن «أضعف الإيمان» على حد وصف الحديث النبوي، فإن هذا الضعف يحمل في طياته من القوة ما واجهته لجنة «ملنر»، وما حمله من بعدها المهاتما في بلاد الهند، فانهزمت الإمبراطورية في المرتين، ولم يكن الذي هزمها إلا «أضعف الإيمان»، وهذا واحد من دروس التاريخ.