&من أشد الأسئلة التي تواجه الكتاب إثارة للحيرة وأكثرها إلحاحا هو السؤال عن رأي الآخرين fما أنتجه المؤلف. وقد يكون الرافضون لنتاج الكاتب زوجته أو عائلته أو زملاءه أو جيرانه أو أهل منطقته. لا يهم من يكونون على وجه الدقه. ولكن المسألة المتعلقة بآرائهم مسألة بالغة الأهمية للكتاب الناشئين. فحين يبدأون الكتابة تنطلق جوقة من المنتقدين والمعترضين إن لم تكن من المعادين والحاقدين. ويصبح الكاتب مكبلا بمخاوف من تأثير كلماته أو كلماتها في الآخرين. وقد يصبح الكاتب متوترا أو مخنوقا أو مشلولا. ويمكن ان يشرع في كره عمله أو يُصاب بالخوف من البداية. ونشرت المكتبة البريطانية على الانترنت مؤخرا مواد عن حياة كتاب عاشوا في القرن العشرين تقدم شهادة على مخاوف الكاتب من رأي الآخرين بنتاجه. ونرى تي. أس. اليوت قلقاً بشأن "ارض اليباب" حين يقول "لا أدري إن كانت القصيدة ناجحة ويجب ان انتظر رأي فيفيان إن كانت صالحة للنشر..." ونرى رسائل رفض تسلمها جيمس جويس، من فرجينيا وولف، وتسلمها جورج اورويل من اليوت. وهي تبين ان كتابا حتى بهذه القامات الكبيرة تعين عليهم ان يواجهوا انتقادات ورفضاً لأعمالهم في البداية.&

ويلاحظ الكاتب البريطاني حنيف قريشي ان الكاتب حين يبدأ العمل لا تكون لديه فكرة عما سيكون رأي الآخرين بما كتبه. والكاتب الصادق سيفعل ما بوسعه وفي النهاية يكتشف ما إذا كان رأي الآخرين يتسم بعدم الاهتمام أو الحماسة لنتاجه أو شيء آخر تماما. ولكن ما يفترضه الكاتب المتوجس في هذا السيناريو المرعب هو انه فعلا استفز أحدا ما أو الحق به اذى والأكثر من ذلك ان هؤلاء سينتقمون. وسيكون هناك شعور بالذنب وصراع مرير. يعني عذاب الضمير هذا ان الكلمات خطيرة. فهي يمكن ان تزعج وتُمْتع وتثير وتستفز وتغير حيوات. ويدرك الكتاب الحقيقيون انهم لا يعملون لأنفسهم فحسب بل يفعلون شيئا للقارئ ايضاً. ذلك ان الكلمات سحر قوي يستحضر عوالم غريبة ومخيفة.&
يقول الأديب الفرنسي فرانسوا لاروشفوكو في هذا الشأن "ان ذلك الذي نسميه فضيلة ما هو عادة إلا شبح من صنع عواطفنا". ويمكن ان تُسمى هذه الفضيلة "ضمير الكاتب". فهنا يراعي الكاتب مشاعر الآخرين، بمن فيهم الجيران. ولكن الضمير مفردة أقل فاعلية في وصف ما يحدث من فكرة "أنا العليا"، التي طرحها سيغموند فرويد بعد الحرب العالمية الأولى رابطاً اياها بالكراهية والكآبة والمازوخية وما سماه "غريزة الموت". فالضمير يعني الاهتمام والحرص والمراعاة وهو يفتقر الى البعد الشيطاني أن لم يكن السادي الذي تمتلكه "أنا العليا" حيث يصبح الخير عقبة في طريق الحقيقة. ولا يعني هذا ان الكاتب ارتكب جريمة بل يعني انه متهم وسيكون متهماً على الدوام. في نهاية المطاف ليست هذه مسألة أخلاقية تتعلق بإيذاء الآخرين بل مسألة تتصل بإيذاء الذات، وصمة اضطهاد الذات وكيف يمكن ان يبدأ الكاتب بكره مخيلته ذاتها. فالكاتب قد يكون بصاصاً يحب ان يستعرض نفسه. وهذا ما يعنيه جزئياً تقديم شيء للجمهور ـ الرغبة في ان يكون معروفاً، الرغبة في أن يتقمص شخصية مقترنة بقدر معين من عدم الحياء. ولكن الكاتب يتساءل في الوقت نفسه إن كان وحشا هو نفسه لا يطيقه ويعتقد انه إذا كان كاتبا جميلا فلن تنتابه افكار عدوانية أو عنيفة ناسياً ان البشاعة مفيدة في الفن الذي لكي يكون فاعلا يجب دفعه الى حدوده القصوى.&
يقول حنيف قريشي ان أي كاتب يجب ان يكون قادرا على النظر الى عمله بعين صافية، يقرأه بعناية، يرفض هذا أو ذاك ويحتفظ بهذا أو ذاك. ولكن شكل النشاط الضاري للأنا العليا الذي لاحظه فرويد ليس جزء من صعوبة العمل المثيرة ولا من الصراع الذي يخوضه جميع المبدعين مع مادتهم وموضوعهم. وهو لا يمت بصلة الى هندسة الابداع بل يقع خارجها، يخنقها قبل ان تبدأ قائلا للكاتب ان عليه دائماً ان ينتج عملا عظيماً وانه لا يمكن ان يرتكب اخطاء أو يتحمل الفشل. فنشاط أنا العليا لا يفعل سوى التدمير.&
ويتساءل قريشي عن سبب وجود ماكنة قتل كهذه في داخلنا. وكان فرويد يرى ان نزعة تدمير الذات لدى الأشخاص ومازوخيتهم وساديتهم هي من اشد الألغاز اثارة وتشويقاً في التحليل النفسي. الآذان ليس لها غطاء والمجنون، كما يُسمى، ليس وحده الذي يسمع اصواتاً بل الكل ممسوسون بها. وأنا العليا ليست ليست وظيفة سيكولوجية غامضة فحسب بل هي أقرب الى الصوت اللاإرادي الآمر بلغة تهديد تقول انك إذا فكرت في شيء معين أو فعلته، ستُعاقب، والقصاص المتخَيَّل اسوأ بكثير من القصاص الحقيقي. ليس بيننا من لم يمض سنوات شبابنا بأمرة الآخرين، أمرة الكبار الذين كانوا يؤمّنون سلامتنا. ومن المهم ألا ننسى الحجم الخالص للخوف الذي يعانيه جميع الأطفال. وبالتالي فان جذور هذا التهديد المقيم هي الوالدان والسلطات الأخرى زائدا الصخب الذي نشعر به إزاء توجيهاتهم.
وبحسب الكاتب حنيف قريشي فان هذا النظام الاجتماعي الداخلي منطقة ضيقة تُعاقب فيها باستمرار تمردات أو مفاجآت مثل الكلام أو الكتابة بحرية. ويبدو ان أنا العليا توفر، مثل الأبوين، شكلا من أشكال الحماية والحدود. ولكن هذا الوعد بالاستقرار ليس مجدياً للكاتب الناضج الذي عليه ان يعمل بدون يقين شاقاً الطريق لمرور الجديد. فأنت في غابة سوداء وليس لديك إلا شعلة. وإذا كنت تعرف ما تفعله فان هذا ليس ابداعاً، على حد تعبير قريشي مشيرا الى ان تحرير الذات من العبودية الذاتية لا يمكن ان يكون انجازاً دائماً ولكن اعمالا جيدة تتحقق ومخاوف تُذلل واشباحا من صنع يدينا تُطرد، على الأقل لبعض الوقت. وإذا كانت لدينا بعض الحميمية مع أنفسنا فان من الجائز ان نتعقب هذه الاضطهادات ونتصارع معها. وقد تتغلب المعرفة احياناً على وعد المتعة الفظيعة. وسيكون المردود قناة واضحة للتواصل بين اللاوعي والوعي. وهنا يُنجز العمل.&
&