مع الإصرار العجيب للسلطات الدينية على رفض مجرد الاقتراب من النص حتى ولو على المستوى الفردي تحت قاعدة quot; لا اجتهاد مع النصquot; وجدت نفسي وقد شحنت بقوى المنطق والواقع مندفعاً في اتجاه البحث عن دوافع وأسباب رفض السلطات الدينية مبدأ الاجتهاد مع النص. وعندما وجدت أن النتائج التي توصلت إليها لم تقدم إجابات مقنعة للعقل والمنطق وافقت على مضض في تصديق الاعتقاد في أن هذه القاعدة هي من الأسرائيليات المنبثقة من مخرجات نظرية المؤامرة، وقد حبكت بعناية فائقة لكي تبعدنا عن الفهم الواعي والإدراك الصحيح لمعاني النصوص المقدسة ما أدى إلى حرمان أنفسنا بأنفسنا مما نحن في حاجة إليه من أجل جعل الحياة أفضل لنا ولغيرنا.

بحثت في آراء فقهاء الدين فوجدت أن النصوص الدينية تنقسم إلى نوعين أساسيين بالقياس إلى درجة الثبوت ومستوى الدلالة. النوع الأول هو النص الثابت أو القطعي، والثاني هو النص المتحرك أو الظني. ووجدت أيضاً أنواعاً أخرى من النصوص يمكن أن نسميها النصوص الهجين وهي تلك النصوص التي تقع في المسافة بين النوع الأول والنوع الثاني، أو إنها نتاج تقاطع فضاء النصوص القطعية مع النصوص الظنية ولذلك يسميها الفقهاء النصوص القطعية الظنية، أو الظنية القطعية.

وعندما تهت في عالم الفقه والتفسير حيث النظريات والقواعد الفقهية لاحصر لها وهي تبدو متشابكة أحياناً، ومتعاكسة أحياناً أخرى، وتحتاج إلى فقه آخر في معظم الأحيان. كان يجب الخوض بعيداً عن هذا الفضاء والدخول إلى فضاء العلم والمنطق والفلسفة للوقوف على ماهية النص الثابت لمعرفة نوع الثبات. هل هو ثبات الحرف، أوالكلمة أم ثبات المعنى؟ وما هي درجة ثبات النص طبقاً لتغييرالزمان والمكان (البيئة المادية والمعنوية)؟ وجاءت النتائج لتؤكد استحالة وجود صفة الثبات في النص فالنصوص جميعها في حالة حركة وحالة حراك مستمر ومتواصل. ماذا يعنى هذا الكلام؟؟

يعني أن النصوص التي تسمى ثابتة ليست ثابتة في ذاتها بصرف النظر عن ثبات الحروف والكلمات، إنما يمكن أن تثبت زمنياً في عقل الإنسان ثم تبدأ في الحركة مع تغير المرحلة العمرية للإنسان وما يصاحب ذلك من تغيرات في مستويات التفكير والثقافة. فعندما كان الإسان طفلاً كان يفكر كطفل ولما صار رجلاً أبطل ما للطفل. ولذلك فمن الخطر أن يوقف الإنسان عمداً أو كرهاً نشاطه العقلي لحساب ثبات النص، ومن الظلم البين أن يؤثر الإنسان السلامة ويستسلم لتأثير المسكنات الفكرية من نوعية لاتناقش، ولا تجادل، ولا اجتهاد مع النص فيحرم نفسه ومن معه من نعمة الدخول إلى عمق النص لاستخراج ما ينفعه ويعود بالخير على البشرية جمعاء.

إن الواقع العملي أيضاً يؤكد أن النص المقدس في حالة حركة دائمة وهذا ما تؤيده القراءات المستمرة للنصوص إذ يمكن للمرء أن يلاحظ أنه في كل مرة يطالع النصوص المقدسة يكتشف أسراراً جديدة. فالإنسان الذي يتطور عقله ويرتقي إدراكه وتتعدد طرق تفكيره وثقافاته مع تغير الزمان يجد النص في حالة حركة دائمة ولذلك يقولون أن الكتب المقدسة صالحة لكل زمان ومكان.

ومن الناحية العلمية لا يوجد شيء مادي أو معنوي (عقل الإنسان يؤثر في المادة والمادة تتأثر بعقل الإنسان) يتمتع بحالة الثبات على الإطلاق فالكون بأكمله بمن فيه ومن عليه في حالة حركة دائمة. حتى إذا قيل مثلاًـ أن البحر الأحمر ثابت في مكانه لا يتحرك فإن هذا الكلام يتناقض تماما مع نظرية تمدد الكون، ويتعارض مع النظريات الجيلوجية التي أثبتت أن شواطئه الغربية والشرقية تتباعد عن بعضها البعض بمقدار حوالي نصف سنتيمترا في العام، والأمثلة كثيرة لا تنتهي.

من جهة حركة النص دعنا نتأمل الوصية quot; لا تزنيquot; لنرى كمية الحركة التي فيها والناتجة عن الكم الهائل من التساؤلات والإجابات المقابلة التي يمكن للعقل البشري أن يفرزها. فمثلاً هل لنا أن نعرف تحت أي نوع تندرج كلمة quot;لا quot; التي جاءت في النص المقدس quot; لا تزنيquot;؟ هل هي لا النافية، أم الناهية، أم الزائدة، أم العاطفة، أم الجوابية؟ وإن كانت لا النافية فهل هي لا النافية للجنس أم ماذا؟ والموضوع لن ينتهي بسهولة. وما هو مفهوم الزنى كما جاء في كلمة quot;تزنيquot;؟ وما علاقته بالشهوة والغريزة؟ وهل حب رجل لإمرأة غير زوجته وارتباطه بها عاطفياً بدون معاشرة يعتبر زنى أم أن الشرط هو المعاشرة في ذات الفعل؟.... التساولات لا تنتهي والإجابات أيضاً.

وكمثال حي آخر على حركة النص الدائمة والمستمرة لنأخذ الآية رقم 28 الأصحاح الخامس في أنجيل القديس متى quot;وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِquot; لنتأمل كمية الحركة الموجودة في هذا النص المقدس والتي يمكن أن نستشعرها من التساؤلات الآتية: من هو المقصود بكلمة مَنْ في القول إِنَّ كُلَّ مَنْ؟ هل هو الرجل أم المرأة؟ لأننا نعلم أن هناك نساء ينظرن أيضاً بل ويشتهين النساء. وإذا كان المقصود هنا الرجل فأي نوع من الرجال؟ الرجل المتزوج أم الرجل الأعزب؟ وهل النظر ضروري وبذلك يستثنى من القاعدة فاقدي البصر؟ وما معنى الأشتهاء؟ وما هي درجاته، وما هي أنواعه؟ هل هو أشتهاء للجسد فقط أم العقل أم الطباع؟ ما تفسير الزنى وماذا يعني وما هي علاقته بالخيانة وما هي علاقته بالشهوة والغريزة؟. ما معنى الزنى في القلب وهل يساوي الزنى بذات الفعل؟ وهل يوجد رجل ينظر إلى إمرأءة جميلة عالية الأنوثة ولا يشتهيها! أليس لذلك تخبرنا الكتب المقدسة أنه لا يوجد إنسان واحد بلا خطيئة ولو كانت حياته ساعة واحدة على الأرض. هناك الكثير والكثير من الأسئلة والكثير والكثير من الإجابات التي تجعل النص في حالة حركة مستمرة إذ أن أسئلة جديدة سوف تخرج من رحم الإجابات وأسئلة تلغي أسئلة وأسئلة تلد أسئلة وهكذا يظل النص في حالة حركة دائمة ومستمرة على مر العصور والأزمان.

يا أخوتي إن النص المقدس مرتبط أساساً بالإنسان.. فمن أجله قد جاء و لإجله يعمل فلا معنى مثلاً لوجود مدرس في فصل خالي من التلاميذ. لذلك فللإنسان أي إنسان الحق الأصيل في تفسير النص وفهم محتواه بحثاً عن طاقات الخلاص والسعادة التي يطوق إليها. فإذا لم يجدها فليس امامه إلا أن يرفض النص أو أن يستمر بلا كلل وبلا تعب في البحث والتنقيب في اعماقه... في الفحص والمحص لخباياه حتى يصل إلى الجين الرئيس وهو ما يطلق عليه روح النص عسى أن يجد ضالته التي تساعده على حل المشكلات التي تواجهه في الحياة وتروي شجرة المعرفة التي يستظل بها ويأكل من ثمارها وتقترب به من الحقيقة.

والتاريخ يشهد كيف كان العلماء والفلاسفة على مر العصور والأزمنة يدخلون داخل اعماق النصوص ثم يخرجون منها خارجاً وهم في كل مكان بالداخل أو الخارج يبحثون عن النور الحقيقي الذي ينير حياة الناس والماء الحي الذي يروي نفوسهم العطشى والغذاء الكامل الذي يشبع الروح والنفس والجسد. وكان الإنسان في رحلة البحث والتنقيب هذه على قناعة تامة واعتقاد راسخ أن النص قد جاء من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل النص.

لقد حان الوقت أكثر من أي وقت مضى أن نعترف أن quot;الأجتهاد مع النص فضيلة quot; نعم الأجتهاد مع النص وليس ضد النص. وجب علينا أن نمسح من الذاكرة المجتمعية قاعدةquot; لا اجتهاد مع النصquot; فلست أعلم من أين جاءت فلربما كانت بالفعل من الاسرائيليات كما يحلو لمؤيدي نظرية المؤامرة أن يرددوا.

المسئولية تقع على عاتق المؤسسة الدينية لتقوم بدورها في حفظ النصوص المقدسة من عبث الأجتهاد ضد النص وفي الوقت نفسه تشجع الناس كل الناس على الأجتهاد مع النص بتأملاتهم وأفكارهم واستخدام العقل الإنساني في استخراج المنافع من النص آخذين في الأعتبار أبعاد المكان والزمان وما يتبع ذلك من تغير في معدلات الوعي والفهم الإنساني طبقاً لقواعد علم التفاضل والتكامل.

[email protected]