كثيراً ما يحاول البعض قلب الحقائق وتزييفها لتسويق فكرته والترويج لها أو لتبرير حادثة أو تصرّف مُعيّن يَظنّ بصوابه، مثال على ذلك عندما يتحدث البعض عما حدث في 14 تموز 1958 و 17 تموز 1968 و 8 شباط 1963 ويصفونه بالثورة، ثم يبدأون بخلق الحجج وإيجاد المبررات وإفتعال المواقف و تخيل الأحداث لإثبات هذه النظرية. مشكلة هؤلاء هي أنهم مؤمنين بأنها ثورة إبتداءً، وهذه الفكرة مَغروسة في عقولهم منذ زمن ليس بالقريب نتيجة للآيديولوجيات الشمولية الثورية التي كان ولازال البعض منهم يؤمن بها ويسير في ركابها ويروج لها يسارية كانت أو قومية ولم يؤمنوا بها نتيجة للعقل والمنطق وبناءً على أدلة وبراهين لذا فهم يفعلون العكس وبالمقلوب حينما يحاولون إثباتها بعد الإيمان بها، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم فنحن غير مؤدلجين وبالتالي كل شيء بالنسبة لنا نسبي خاضع للمناقشة وللصواب والخطاً، وعندما عرضنا الأمر على عقولنا رأينا أن ما حدث في 14 تموز 1958 و 8 شباط 1963 و 17 تموز 1968 لم يكن ثورة بالمفهوم الذي تعلمناه وقرأناه رغم أننا لا نُقِر هذا المفهوم ولا نُؤمن به، فنحن نسأل لماذا حدثت؟ وما السبب؟ من قام بها؟ وماذا كانت نتائجها؟ وهل كانت النتائج تستحق؟ وهل كان ممكناً الوصول لهذه النتائج بدونها؟ وعندما أخضعنا ما حدث لكل هذه الأسئلة كانت الأجوبة في غير صالح مصطلح الثورة، فالأجوبة كانت تقترب بنا أكثر وأكثر بإتجاه كونها إنقلاب ومؤامرة.
إن الانقلاب يختلف في جوهره عن الثورة التي تعني بالمفهوم الأكاديمي للعلوم السياسية حركة شعبية شاملة يقوم بها الشعب ضد السلطة الحاكمة للخلاص من الظلم وتحسين الوضع الإجتماعي والإقتصادي للبلاد، وأكاديمياً تندرج ضمن هذا المفهوم مثلاً كل من الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الإيرانية مع تحفظي الشديد على نَعتها بالثورات وعدم قناعتي شخصياً بدوافعها ومُسبّباتها ومُنفذيها وكل مايمُت لها بصلة، لكن للأسف يخلط الكثير من كتابنا ومثقفينا المؤدلجين منهم بالذات عن عَمد بين المصطلحَين لغاية في نفوسهم لم تعد خافية على أحد. من الملامح الرئيسية للثورة أن يشترك فيها الشعب والجمهور بطرق مختلفة، أما الإنقلاب فهو يرمي الى قلب نظام الحكم عن طريق تغيير قمة الهرم فحسب، وغالباً ما تقوم مجموعة من داخل مؤسسة الحكم نفسها بذلك، كما إن جوهر الفرق والإختلاف بين الانقلاب والثورة هو أن الثورة تهدف غالباً لتحرير الناس أما الانقلاب فيهدف لحكمهم، والثورة يقودها الشعب فيتبعه الجيش لكن الإنقلاب يقوده الجيش فيتبعه الشعب، والثورة تغيير لقواعد بناء السلطة لتكون الكلمة الأخيرة فيها للشعب، أما الانقلاب فهو تغيير لأشخاص الحكام مع بقاء القوة معياراً للحكم، وحتى الثورات نفسها ليست ناجحة على الدوام وليس بالضرورة أن تحقق الهدف الذي قامت لأجله بل يمكن أن تكون الثورة مُجهَضة كما يَصِف تروتسكي الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وقد تكون الثورة عملاً تخريبيا كاملاً لحضارة قائمة كما الثورات التي إندلعت ضد الخلافة العباسية ومَهّدت لسقوطها وتسببت بتدمير إنجازات قرون من الحضارة الإسلامية،ولوصف وجهي الثورة المذكورين يقول بول فاليريquot;قد تحقق الثورة في يومين عملاً يحتاج تحقيقه لمائة عام وقد تُضيّع في عامين إنجازات عمرها خمسة آلاف عامquot;. كل هذا يدفعنا للقول بأن ما تسمى بالثورات والتي حدثت خلال القرن المنصرم في الكثير من البلدان العربية وبضمنها العراق لم تكن في واقعها سوى إنقلابات عسكرية أطلق عليها منظِّرو السلطة بعد ذلك إسم الثورة، رافقها كلام ثوري كبير ولم تتمخض عنها نتائج ثورية تُذكر وغالباً ماكان يتم تنصيب عسكري بدلاً من عسكري آخر وأحياناً بدلاً من رئيس مُنتخب، وبالتالي فإن ما حدث في مصر عام 1952 لم يكن ثورة بل إنقلاب، وما حدث بالعراق في الأعوام 1958 و 1963 و1968 لم يكن ثورة بل إنقلاب، وما حدث في ليبيا عام 1969 لم يكن ثورة بل إنقلاب لإن الثورة كمصطلح وكمفهوم لها متطلبات لا تنطبق على هذه الأحداث التي لا تعدو كونها حركات تآمرية إنقلابية للعسكر طمعاً ورغبة منهم بالإستحواذ على السلطة في بلدانهم.
يقول الأستاذ عبد المجيد القيسي في كتابه(التأريخ يكتب غداً) حول هذه الإنقلاباتquot; لا يُغيّر من واقع حالها كون أصحابها نعتوها منذ ساعاتها الأولى بالثورة المجيدة الخالدة إذ لا يصير الهر ليثاً حين تدعوه أسامة فما قامت به هذه الحركات من قتل وسحل وتمثيل بجثث خصومها دليل على طابعها الإنقلابي التآمري الدموي الوحشي، كما لا يُغيّر من صفتها الإنقلابية ويجعلها ثورة تغييرها لنظام الحكم من الملكي الى الجمهوري تماشياً مع موظة وحُمّى الثورات التي سادت تلك الفترة في محاولة لتقليد الثورة الفرنسية خصوصاً بعد نجاح ثورة البلاشفة في روسيا، ولا يُغيّر من صفتها الإنقلابية خروج العوام بالإثارة و التضليل والإندفاع العاطفي لتأييد حركة أو حدث لم تكن تعلم حتى قبل دقائق من وقوعها من أمرها وأمر القائمين بها شيئاً، خصوصاً وأنها بعد كل هذه الحركات لم تحصل ولا حتى على الحد الأدنى من فرصة التعبير عن وجهات نظرها والمشاركة في إدارة البلاد التي كانت تتمتع بها قبل هذه الحركات، فمشاركة الشعب من اللحظة الأولى وليس تأييده لاحقاً هي التي تضفي على الحدث صفة كونه ثورة quot;.
يحاول البعض على سبيل المثال وفي محاولته لتجميل صورة الجريمة البشعة التي حدثت في 14 تموز 1958 بحق الأسرة المالكة العراقية وبحق كل العراق والعراقيين تشبيهها بالثورة الفرنسية التي حدثت في مثل هذا التأريخ قبل قرنين من الزمان، وهو تشبيه غير موفق جملاً وتفصيلاً، إذ ليس هنالك من تشابه ولا أي وجه للمقارنة بين ماحدث في 14 تموز 1958 في العراق وماحدث في 14 تموز بفرنسا. إن ما حدث في فرنسا سواء إتفقنا أو إختلفنا معه كان ثورة شعبية نَظّر لها مفكرون كبار كروبسبير وفولتير وروسو وألهبوها بخطبهم الحماسية وفجّرتها وقامت بها جماهير الشعب الفرنسي الفقيرة المسحوقة وحدها وبعد ذلك إنظمت لها باقي شرائح المجتمع من جيش وموظفين، أما ما حدث بالعراق فقد كان عبارة عن مؤامرة لقلب نظام الحكم دبّرتها وقررت القيام بها حفنة من الضباط دون إستشارة أحد ثم بعد ذلك إنظمّت إليها ورقصَت وطبّلت لها حفنة من العوام الجهلة وسَمَّي ماحدث بالثورة، وإن كان هنالك من تشابه بين ماحدث في البلدين فهو ببشاعة الجرائم التي إرتكبت في الحالتين بحق الأسر المالكة الحاكمة والمحسوبين عليها من الطبقة البرجوازية رغم أنها كانت في14 تموز العراقية أشد وأكثر دموية، وبالتالي فإن كان الإستشهاد بما حدث في فرنسا من باب إعتباره جريمة بشعة على غرار التي إرتكبت بحق لويس السادس عشر و ماري إنطوانيت ومؤسس علم الكيمياء الحديث لافوازيه الذي أعدِم بالمقصلة عن طريق الخطأ فنعم، أما إذاً كان الإستشهاد من باب الإعتزاز بثورة الباستيل فهي ثورة لا يُعتز بها وليست مدعاة للفخر وقد كانت فاتحة ومُحَفّزة لكل تحركات الرعاع منذ ذلك اليوم وحتى الساعة،وقادتها وعلى رأسهم روبسبير لم يكونوا بأفضل من لويس كما لم يكن قادة إنقلاب 14 تموز بأفضل من رموز العهد الملكي.
ويذهب البعض في دفاعه عن إنقلاب 14 تموز بإعتباره ثورة بعيداً الى حد إعتبار أن ما حدث فيها من جرائم وحشية يندى لها جبين الإنسانية كان تفجراً ثورياً إجتماعياً شاملاً أو عنف ثوري مسموح به، وهو كلام فارغ ومردود على أصحابه وفيه مجافاة للحقيقة لأن ما حدث في ذلك اليوم بكل بساطة وبدون تزويق التيارات اليسارية والقومية وشعاراتها الثورية كان مؤامرة لمجموعة ضباط إنقلابيين خانوا القسم والأمانة، تبعتهم شريحة من الغوغاء تنعق مع كل ناعق صفقت وهللت ورقصت لهم، وهي نفسها التي صَفّقت وهَللت لمن جاؤوا بعدهم، وهي نفسها التي تُصفّق وتُهلل وترقص لمن يحكمون اليوم، فالجماهير العراقية ليس هي التي قرّرت الثورة على النظام الملكي، وليست هي التي إقتحمت قصر الرحاب وقتلت العائلة المالكة كما حدث في الثورة الفرنسية على سبيل المثال. إن المشاركة الشعبية والجماهيرية في الثورة منذ لحظاتها الأولى وإنطلاق الثورة مع إنطلاقة جموع المواطنين هو ما يعطيها صفة الثورة، أما إلتحاق بعض الرعاع والجهلة والمخدوعين بركب هذا الإنقلاب أو ذاك فلا يعطيه صفة ثورة بغض النظر عما حققه وسيحققه هذا الإنقلاب فيما بعد من إنجازات، لذا فإن ما يدفع بعض الشعوب العربية للأفتخار بالثورة الفلسطينية المستمرة، أو بثورة عرابي وسعد زغلول في مصر، والثورة الجزائرية ليس إنجازات هذه الثورات وإنما إشتراك الشعوب والجموع فيها، وبالتالي يمكن إعتبار الثورة الوحيدة الناجحة التي شهدها تأريخنا الحديث هي ثورة المشير سوار الذهب بالسودان عام 1985 لأن تحركات الشعب السوداني وقواه السياسية والنقابية ضد النميري سبقت تدخل المشير الذي كشف عن زهده بالسلطة و وفى بوعده وسلم الأمر للشعب عن طيب خاطر في سابقة لم وربما لن تتكرر، وهو بتصرفه هذا يذكرنا بعظماء الثوار في التأريخ مثل جورج واشنطن الذي إقترح عليه أحد قادة جيشه أن يَقبَل البيعة كأول ملك للدولة الأميركية الوليدة فرد واشنطنquot; إن الشعب الأميركي لم يبذل الدم للتحرر من جورج الثالث ملك إنجلترا ليضع مكانه جورج الأول (يعني نفسه)quot;، وهذا ما لم يفعله لا عبد الناصر في مصر، ولا قاسم أو عارف أو البكر في العراق ولا بعض الحكام الذين لا يزالون على قمة هرم السلطة حتى اليوم رغم إن الثورات التي قاموا بها مضى عليها ما يزيد على النصف قرن. أما في العراق فثورة العشرين هي فقط ومع التحفّظ يمكن وصفها بالثورة، كونها إنطلقت بتحريض من رؤساء العشائر ورجال الدين بالعراق الذين أخافهم مايمكن أن يحدثه الغزو الحضاري الذي سيصاحب الغزو العسكري لقوات الإحتلال البريطاني، فرجال العشائر خافوا من ضياع سطوتهم القبلية وتأثيرهم العشائري على الناس في حال حَلّت سلطات الإحتلال مَحَلّهم بمؤسساتها الإدارية وقوانينها المدنية، أما رجال الدين فقد خافوا من ضياع سطوتهم الروحية وتاثيرهم الديني على بسطاء الناس في حال دخل الإحتلال بثقافته الغربية بالمأكل والملبس والعادات وبقوانينه الإقتصادية وما يتبعها من ضرائب قد تؤثر على إستمرارية دفعهم للخمس والزكاة التي كانت تذهب لرجال الدين، وقد إلتقت مصالح الجانبين وإستغلوا هذه السطوة لتحريض العوام على البريطانيين، وإنطلقت تلك الهَبّة العشائرية والدينية التي سُمِّيت بثورة العشرين، إلا أنها على العموم كانت أكثر شعبية وجماهيرية من كل الحركات التي تلتها وساهمت بشكل أو بآخر في الإسراع بقيام الحكم الوطني في العراق.
ليس المقصود بهذه المقالة كما قد يفهم البعض خطأً هو الدفاع عن الثورات أو تفضيلها على الإنقلابات لأن كلاهما من وجهة نظري الليبرالية أو الرجعية كما قد يصفها البعض وجهان لعملة واحدة، فإذا كان الإنقلاب بنظري هو فعل أهوَج هَمَجي فإن الثورة هي رد فعل فوضوي مُتهور لاعقلاني غير مَحسوب النتائج، لأنني أؤمن بالتطور الطبيعي والتدريجي للأحداث دون إستعمال القوة لتغييرها سواء كان ذلك عن طريق الإنقلاب أو الثورة أو سَمِّها ما شئت، خصوصاً وأن أغلب من خططوا وقاموا بالثورات هم أما عَسكر أو هواة سياسة، وأتحدى أي مُدافع عن ما يُسمّى بالثورات سواء كانت الفرنسية أو الروسية أو العربية أو الكوبية وهلم جرا.. أن يُثبت لي بأن منفذيها أو المُحرّضين عليها كان لديهم برنامج سياسي وإقتصادي وإجتماعي واضح لبناء بلدانهم بعد تنفيذهم لهذه الثورات، أو أن يُثبت لي بأنهم كانوا يَنظُرون لأبعد من أنوفهم حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت تنفيذهم لهذه الثورات، فهي سرعان ما تخرج عن السيطرة من اللحظات الأولى لتنفيذها ويصبح المخططون والمنفذون لها والقائمون عليها أول ضحاياها، ومن هنا جائت المقولة التأريخية الشهيرة بأن (الثورات تأكل أبنائها)، ولنا بما حدث بعد ما يسمى بالثورة الفرنسية لخطيبها روبسبير وبما حدث بعد ما يسمى بالثورة الكوبية لبطلها جيفارا وبما حدث بعد مايسمى بثورة أكتوبر لأحد أبرز منظريها تروتسكي وبما حدث بعد ما يسمى بثورة 14 تموز لزعيمها قاسم وبما حدث بعد ما يسمى بثورة 8 شباط لرمزها عارف وبما حدث بعد ما يسمى بثورة 17 تموز لقائدها البكر وبما حدث بعد ما يسمى بثورة يوليو المصرية لزعيمها محمد نجيب، لنا بما حدث لكل هؤلاء وغيرهم ولما آلت إليه مصائرهم ومصائر ثوراتهم المزعومة خير مثال على ما نقول ونَدّعي.
آخر ما نقوله في ما يسمى بالثورات ننقله عن لسان السيد محمد نجيب رئيس مجلس قيادة ما يسمى بثورة يوليو في مصر وأول رئيس للجمهورية المصرية الذي يقول في مذكراته quot;عرفت كم كانت جريمة الثورة بشعة في حق الإنسان المصري، وعرفت أي مستنقع ألقينا الشعب المصري فيه، ففقد حريته وفقد كرامته وفقد أرضه وتضاعفت متاعبهquot; كما يروي في مذكراته بأن حفيده رجع يوماً من المدرسة وبادره بالسؤال quot;كيف تقول ياجدي أنك أول رئيس جمهورية لمصر، في حين أن مُعلم التأريخ قال اليوم إن عبد الناصر هو أول رئيس للجمهورية المصرية؟quot; فقد لا يعرف البعض بأن (الزعيم عبد الناصر!) نكّل برفيق نضاله وأول رئيس جمهورية لمصر وإعتقله ووضعه تحت لإقامة الجبرية ثم نصّب نفسه رئيساً للجمهورية، ولم يكتف بذلك بل أمر بحذف إسم محمد نجيب من الكتب وإلغاء أي ذكر لدوره بتأريخ مصر و وضع إسمه بدلاً عنه، وهذا هو نفس ما فعله قاسم بعارف وما فعله عارف بالبعثيين وما فعله كاسترو بجيفارا وما فعله صدام بالبكر ولكن بأشكال وتوقيتات مختلفة. إن الثورة سُبّة كما هو الإنقلاب ولا فرق بينهما سوى في كونها مصطلح أكثر قبولاً لدى البعض، مصطلح بات حجة يُبَرّر بها المغامرون والمتآمرون بل وحتى المجرمون أفعالهم بحق شعوب بأكملها، تقتل إحداها مؤسس علم الكيمياء الحديث لافوازيه وتقتل الأخرى حفيد مؤسس الدولة العراقية الحديثة الملك الملاك فيصل الثاني وأبو العراقيين الباشا نوري السعيد.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات