لطالما شكّل الحراك الطلابي في مختلف دول العالم وقضاياه، أثراً عميقاً في تغيير مظاهر الرأي العام، وصولاً إلى ما يشكل قواعد عامة لترسيخ قواعد التغيير في السلوكيات السياسية والاجتماعية لدى صناع السياسات العامة وأصحاب القرار.

فالحركات الطلابية في مختلف نطاقات وجودها الأيديولوجي والفكري والسياسي، تشكل حجر الرحى لأي دفع نحو التأثير في الرأي العام، وتشكيل البيئات الضاغطة القادرة على تحريك ديناميات التغيير، ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب المتصلة بطبيعة هذه الفئات وقدراتها النوعية في التأثير والتغيير.

فجماعة الطلبة، تعتبر فئة شابة وطموحة، وثورية الميول وغالباً ما تجنح نحو التطرف في التعبير عن التغيير. طلاب الجامعات على سبيل المثال، يشكلون فئة واسعة الانتشار في القضايا والمجالات السياسية والاجتماعية، فهي الأكثر عدداً، والأكثر حماساً، والأقل احتساباً لتداعيات أي عمل، ونظراً لكثرة أعدادها كفئة عمرية في المجتمعات تبقى الأكثر حيوية في التعبير عما تريد وعما ترفض، وعما تدعم أو تعترض، وبذلك تمتلك مراوح واسعة من الخيارات والرؤى والأساليب المتنوعة التي تناسب وتتفاعل مع طروحات تجمع في بعضها تناقضات وتباينات كثيرة.

والحركات الطلابية بهذا المعنى، هي الفئة الأكثر جذبا للأحزاب والتيارات السياسية، وهي عصب أي حراك تقوم به أي فئة، فهي سريعة التجاوب لأي شعار، باعتبارها تمتلك صفة الاندفاع، وتعتبر ما تؤمن به وما تعتقده صواباً يستحق الاندفاع دون النظر لأي خطورة محتملة، وهي فئة تتعاطى مع الأمور وطريقة التعبير عنها بأساليب تعتبرها محقة وتؤمن لها الوصول إلى الأهداف المبتغاة.

كما أن هذه الفئة الاجتماعية، غالباً ما تنفصل عن واقعها الطلابي، لتنخرط بمسارات سياسية ثورية، تصل إلى حد الانتفاض على الواقع النظمي لمجتمعاتها، فمن السهل مثلاً تحول الحراكات المطلبية المهنية أو التعليمية لقضايا تغييرية متعلقة بالنظام السياسي، حيث تعمل هذه الفئات بسرعات غير مدروسة أو محسوبة النتائج، التي تصل في كثير من الأحيان إلى خروجها عن السيطرة وبالتالي إفلات الأمور من عقالها وضوابطها المفترضة.

كما أن لهذه الفئة صفة الانتشار والتوسع السريع في القواعد الحزبية والتنظيمية، وهي قادرة في كثير من الأحيان رغم عدم انضباطها، على التأثير في موقع القرار الذي ينظمها، وبالتالي لها القدرة على الدفع في اتجاهات لا تعبر بالضرورة عن قياداتها وبرامجها وشعاراتها وطرق العمل بها، وبالتالي القدرة على كسر الكثير من القواعد والأسس التي ينبغي في الأساس الالتزام بها.

لقد تمكنت الكثير من الحركات الطلابية في مختلف البيئات، من فرض متغيرات مؤثرة في السياسات والقرارات وفي الكثير من الأحيان كان لها الدور المؤثر في الثورات وتغيير الأنظمة، وكسر سياسات دولية وتحالفات ذات أوزان مهمة في العلاقات الدولية، وبعضها بمستويات استراتيجية.

وتنطلق اليوم حراكات طلابية واسعة في مختلف الجامعات الأمريكية، كتعبير عن رفض للسياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وما يجري من حرب في غزة، إذ سرعان ما انتشرت وتوسعت هذه الاحتجاجات لتشمل جامعات أوروبية وآسيوية وإفريقية، ولتأخذ طابعاً لافتاً في مستوى التأثير في تأليب الرأي العام العالمي، في محاولة للضغط على صانعي السياسات الخارجية الأمريكية.

وفي الواقع ثمة سابقة سجلت للحركة الطلابية في الولايات المتحدة الأمريكية، لجهة قدرتها في التأثير والتغيير حتى في القضايا الاستراتيجية الدولية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، ومثال ذلك الدور الفعال الذي لعبته الحركة الطلابية الأمريكية في التأثير لإنهاء الحرب في فيتنام منتصف سبعينيات القرن الماضي.

وفي قراءة سريعة للحركة الطلابية الأمريكية، فهي تظهر نشاطاً فعالاً ومؤثراً في العديد من المناسبات التي تحركت فيها، فكان لها دور مؤثر وحاسم في مناهضة التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي، حيث نظمت الاحتجاجات في العديد من الجامعات المرموقة، وجرت صدامات بين الطلاب المحتجين والشرطة التي سقط فيها ضحايا أواسط ثمانينيات القرن الماضي؛ كما يسجل للحركة الطلابية الأمريكية الحراك القوي ضد سياسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، علاوة على العديد من السياسات المختلفة في غير مكان من العالم.

إن سرعة انتشار الحراك الطلابي في الولايات المتحدة، وفي الجامعات المرموقة خاصة، لهو تعبير واضح عن تغير المزاج الشبابي في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعبر عن ميل واضح نحو المشاركة في رسم السياسات العامة الخارجية التي تعتبر منطقة يصعب الاقتراب منها بشكل عام، وبخاصة في بعض الملفات المتصلة بعلاقات واشنطن الاستراتيجية مع إسرائيل على سبيل المثال لا الحصر.

وبصرف النظر عن حدود ومدى التأثير للحراك الحالي في رسم سياسات خارجية أمريكية مغايرة للقائمة حالياً، ثمة مؤشرات واضحة على هذا التأثير في الرأي العام الأمريكي والدولي، الذي من الممكن أن يسهم بالتغيير بصور ومواقف مغايرة.

ثمة وقائع وصلت إلى حد الثوابت في معرض التأثير في الرأي العام، تثبت أن الحراك الطلابي أينما وجد وكيفما انطلق سيؤثر بشكل أو بآخر في إعادة التموضع لسياسات متجددة، تعيد صوراً كثيرة من التوازنات المرغوبة والمطلوبة في المجتمع الأمريكي.

* رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية