كثيرة هي الثقافات والسلوكيات والمظاهر التي تتصف بها المجتمعات والشعوب والأمم، ومن أهم وأبرز وأخطر تلك الثقافات والسلوكيات والمظاهر هي حالة / ثقافة الترصد التي يُفضلها البعض، بل هي تكاد تكون مفضلة كذلك عند بعض النخب والمثقفين. وكما هو معلوم فإن المجتمعات تتشكل من خليط من المكونات والفئات المختلفة والمتنوعة، قبائلياً ومذهبياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً، مما يجعل هذا المجتمعات تبدو أشبه ببانوراما مجتمعية متعددة أو فُسيفساء بشرية ملونة، وهذا التنوع والتعدد ثراء وغنى، وليس مدعاة للترصد والتناقض، هكذا هي المجتمعات المتحضرة والمتقدمة، ومجتمعنا السعودي لا يختلف عنها، بل هو في طليعتها. ولكن، ما ثقافة الترصد التي يُحذر منها هذا؟

الترصد، هذه الثقافة المثيرة التي تلقى انتشاراً وتموّجاً في كل الفضاءات والمستويات، هي تلك الظاهرة الخطيرة التي يتبناها البعض سواء بصفة فردية أو جماعية، عفوية أو مقصودة، وهي ظاهرة التدخل المباشر والسافر في شؤون وخصوصيات الآخرين، تارة بحجة النصح والإرشاد والتقويم، أو بحجة الواجب والضرورة تارة أخرى، هذا مع الاعتبار طبعاً لأهمية - بل وجوب - كل المبادئ الإنسانية والإسلامية التي تؤكد وتدعو للنصح والانتقاد، ولكنني لا أتعرض إلى ذلك لا من قريب أو بعيد، وإنما أحاول تشخيص خطورة هذه الظاهرة في شقيها الاجتماعي والنفسي، دون الغوص في مسبباتها أو الجدل حول كيفية استعمالها، فقط أنا بصدد تكثيف الضوء قليلاً حول ثقافة الترصد والمراقبة والفضول و"التلصص" التي يُمارسها البعض ضد الآخر بكل أفراده وفئاته، وبكل عاداته وتقاليده وحرياته وقناعاته وثقافاته، فظاهرة الترصد هذه تكاد تخترق الأعماق وتُراقب الآفاق.

ويبدو أن ثقافة الترصد وتتبع خصوصيات الآخرين، تزداد كثيراً في هذا العصر الذي تحوّل إلى فضاء مفتوح ومكشوف على كل السماوات والاتجاهات، فمنصات وشبكات التواصل الاجتماعي وقنوات وتطبيقات الإعلام الجديد، جعلت من حياة البشر أشبه بمسلسل درامي يُشاهده كل مليارات البشر ويُعاد بشكل مستمر ولحظي. لا شيء الآن يمكن حجبه ومنعه، تقريباً لا شيء، فحياتنا بملامحها وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، تكاد تكون مكشوفة ومتاحة لكل من يُريد ترصدها أو كشفها.

ثقافة الترصد وملاحقة البشر وتتبع خصوصياتهم ظاهرة خطيرة تتسبب في تصدع البنية المجتمعية، ومكافحتها ضرورة لا يمكن التنصل منها، ولكن الأمر في غاية الصعوبة والتعقيد، فقد أصبحت هذه الثقافة الخطيرة تُقيم وبشكل طبيعي في فكر ومزاج المجتمعات والأمم بأفرادها ومكوناتها، خاصة بعد أن أعيدت صياغتها وتعريفها بما يتناسب وطبيعة المرحلة التي تغيرت فيها الكثير من الثقافات والعادات والقيم والمظاهر.