رئيس في زمن اللاسلم واللاحرب
ميشال اده المثقف الذي اراد ان يصبح زعيماً
بلال خبيز: يعتبر ميشال اده مرشحاً مزمناً لرئاسة الجمهورية في لبنان. لكن وصوله إلى سدة الرئاسة يحتاج إلى تقاطع صدف متعددة يصعب تقاطعها في وضع مثل الوضع اللبناني. ويمكن القول ان وصول امثال ميشال اده إلى المنصب الأعلى والاهم في لبنان له سوابق تختلف او تتفق كثيراً مع ما يمثله الرجل. إذ حدث ان وصل إلى سدة الرئاسة احد صناع الكلمة في لبنان، يوم انتخب البرلمان اللبناني الرئيس الراحل شارل حلو رئيساً للجمهورية اللبنانية خلفاً للرئيس فؤاد شهاب. وثمة ايضاً سابقة اخرى تتمثل في وصول الرئيس الراحل الياس سركيس إلى الحكم حين تقاطعت المصالح الخارجية والداخلية على ترئيسه.
ميشال اده من طراز هذين الرئيسين. وثمة في سيرته وجوه شبه كثيرة معهما. فالرجل يعرّف عن نفسه بوصفه مثقفاً وباحثاً في الشؤون الإسرائيلية خصوصاً، وهو كاتب صحافي وله باع طويل في هذا المجال. فضلاً عن ذلك ثمة انحيازه المبكر إلى تيار عروبي شغل البلد طويلاً في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، ومثل هذا الانحياز لم يكن مألوفاً لدى زعماء الموارنة او الطامحين لزعامة ما. وقد لُقب لزمن طويل بالبارون الاحمر لانه كان على صلة وثيقة فكرياً مع الافكار الماركسية وكان مناصراً لإعادة توزيع الثروات في المجتمع على نحو اكثر عدلاً.
سيرة مثقف بامتياز. وبصرف النظر عن مدى اتصاله بالثقافة والافكار فإن الرجل اختار لنفسه ان يكون مثقفاً اكثر مما هو رجل سياسة. فلبنان عرف في تاريخه رجال سياسة واسعي الثقافة وثاقبي الافكار، من امثال رياض الصلح وكمال جنبلاط، لكنهما كانا رجلي سياسة وزعيمين سياسيين اكثر مما كانا مفكرين ومثقفين في سيرتيهما. وحين يؤرخ لكمال جنبلاط او رياض الصلح، فإنما يؤرخ لهما بوصفهما قادا البلد او شطراً منه على الأقل في مراحل سياسية حرجة. وعلى النحو نفسه عرف البلد رجال فكر وثقافة تدخلوا إلى هذا الحد او ذاك في السياسة، وتبوؤا مناصب رفيعة في الدولة والنظام، من امثال ميشال شيحا وجورج نقاش وشارل مالك وغسان تويني، لكننا حين نؤرخ لأي من هؤلاء، فإنما نؤرخ لهم بوصفهم رجال فكر وثقافة وصناع رأي عام أكثر منهم زعماء سياسيين.
ويمكن القول ان ميشال اده يقع في هذا الموقع الذي يقع فيه هؤلاء الأخيرون اكثر مما يقع في موقع الزعيم السياسي. لكن الرجل ناشط في السياسة، وبخلاف هؤلاء جميعاً، سرعان ما تنطوي الفكرة في ذهنه ليوجزها بموقف سياسي، وكثيراً ما يؤخذ عليه شعارية تطبع الموجز الملخص من افكاره التي يعلنها في مناسبات مختلفة. والحق ان البارون الاحمر يستعجل تحويل الأفكار من صعيدها الفكري الصرف إلى صعيدها السياسي المباشر، فتراه يوزع مواقف ذات اليمين وذات الشمال، في وقت يجدر بالمفكرين فيه ان يأخذوا نفساً عميقاً قبل الإدلاء برأي حاسم وقاطع كالأراء التي يحب ميشال اده اطلاقها. وهو يختلف في هذا النزق الفكري عن الرئيسين السابقين، شارل حلو والياس سركيس.
لم يكن الياس سركيس مثقفاً ويصح القول فيه انه كان تكنوقراطياً لامعاً، اما الرئيس شارل حلو فكان متصلاً بالثقافة والكتابة اتصالاً وثيقاً، وكان واحداً من صحافيي البلد الأفذاذ، الذين يحسب حسابهم. لكن الرئيس حلو في سنوات حكمه، وفي ما تلاها، كان على الدوام يعرف كيف يقرأ البلد جيداً ويحسن التعامل مع اوضاعه متفهماً المواقف كافة، ومدركاً انه لن يستطيع تحقيق الكثير في عهده، وان افضل ما يمكن ان يحققه هو منع الانفجارات الاجتماعية والطائفية او تأجيلها قدر الإمكان. حكم الرئيس حلو في زمن متفجر على مستوى العالم العربي عموماً وكان دائماً يحسن اتقاء العواصف قدر الإمكان. لكن الانفجارات حصلت والشظايا كادت ان تطيح بالبلد برمته.
أما ميشال اده فعرف ذروة نشاطه السياسي وزيراً وناشطاً سياسياً في زمن الانفجارت نفسها. لكنه لم يتورع او يتهيب امام إطلاق مواقف سياسية حادة في مناسبات عديدة. ذلك ان المواقف السياسية في بلد كلبنان، إنما تستند في الأساس إلى معلومات مخفية دوماً. فأن تكون موالياً لسياسة الحريري في تسعينات القرن الفائت يعني ان تعلن على الملأ تأييدك للوجود السوري من دون اي تفسير منطقي. ذلك ان كواليس السياسة التي جعلت مسيرة الحريري في نهاية المطاف متصادمة مع الهيمنة السورية على لبنان، كانت تغلي وتفور بالاعتراض على هذه الهيمنة، لكن المواقف المعلنة كانت على الدوام مؤيدة لهذا الوجود ومبررة لكل التجاوزات. فالسياسة كما يشاع عنها هي فن الممكن، والممكن يومذاك كان يتلخص لبنانياً في التعايش على مضض مع وجود سوري يتبرم منه معظم اللبنانيين.
ولم يكن ميشال اده بعيداً عن هذا الجو المسيحي الماروني بسبب منبته ونشأته، خصوصاً وأنه العروبي اليساري بسبب ثقافته وتحصيله. لذا كان يسلك في الشأن العام سلوك رجل السياسة والزعيم من دون ان يتسنى له امتلاك مقومات الزعامة السياسية، التي تحمي مواقفه في ازمان الانقلابات الكبرى.
اليوم لا يؤخذ على الحريري او جنبلاط انهما كانا مواليين للوجود السوري في لبنان، فثمة في احتشاد الجمهور الواسع خلف قيادتيهما ما يسمح لهما بتحقيق انعطافات كبرى لا يستطيعها من لا يملك عزوة وجمهوراً وزعامة كميشال اده المثقف والمفكر. تأسيساً على هذه السيرة السياسية يبدو حظ ميشال اده في الوصول إلى الرئاسة مرهوناً بدوام حالين: الأولى تتعلق بانفضاض جمهور الحرب الأهلية عن قادتها، واستحالة جعل الانقسام الاهلي الحاد اليوم حرباً أهلية، والثانية تتعلق ببقاء زعماء البلد الكبار على مواقفهم الحالية، مما يعني ان المطروح في هذه الحال، ونظراً لصعوبة ان يكمل الرئيس الحالي ولايته، تمديد حال اللاسلم واللاحرب الأهليين في لبنان، إلى ان تتغير موازين القوى وترجح طرفاً على آخر، او ان ينفضّ الجمهور عن قادته ويجد قادة الطوائف انفسهم معزولين عن جمهورهم مما يجبرهم على تقديم التنازلات.
والأرجح ان حال المراوحة اللبنانية في ظل الأوضاع الإقليمية الحالية مرشحة للتمديد طويلاً، مما يعني ان ميشال اده قد يكون الأوفر حظاً في الوصول إلى سدة الرئاسة. لكنه مثله مثل الرئيسين السابقين شارل حلو والياس سركيس قد يفاجئ اللبنانيين والقوى السياسية بأنه يستطيع تحقيق ما يصعب على غيره تحقيقه من استقرار وتقدم على المستوى اللبناني الأعم.
التعليقات