quot;الشارعquot;: نهاية عالم في رواية كلاسيكية معاصرة

مازن الراوي من برلين: يَعتبر النقاد الكاتب الأمريكي كورماك مكارثي، البالغ 75 عاماً من العمر،من أهم الروائيين الأمريكيين المعاصرين. وكان واحدا من المرشحين لجائزة نوبل في الأدب. نُشرت روايته الأخيرة quot;الشارعquot; لتعتبر واحدة من أهم الروايات التي صدرت في العقود الأخيرة. ويكافأ مكارثي على روايته المذكورة بجائزة quot;بوليتزquot; لهذا العام، مع أنه حاز على العديد من الجوائز المهمة على أعماله السابقة. وتعتبر جائزة quot; بوليتزرquot; من الجوائز الأمريكية التي لها شأن كبير في تقييم الأعمال الأدبية والفنية، تمنح للعديد من حقول الإبداع (21 حقلاً) بضمنها الرواية والشعر والموسيقى والإبداع الصحافي...الخ. ويجعل تقليدها الكاتب أكثر شهرة وأكثر مبيعاً لأعماله، وهي تمنح دورياً كل عام منذ سنة 1917. وسيقلد مكارثي بالجائزة في نيويورك يوم الاثنين ( 23 نيسان) من قبل اللجنة الخاصة في جامعة كولومبيا. يتحاشى مكارثي الدعاية ويعتبر إجراء اللقاءات وتسليط الأضواء عليه بهذه المناسبة ضرباً من quot; العهرquot;، ولا يريد أن تكون حياته وخصوصياته مبتذلة عند الآخرين لأنها ملك شخصي سيُفسّر بالتأكيد على نحو خاطئ من قبل الآخرين. في الواقع لا يعرف أحد إلاّ القليل عن حياة الروائي مكارثي.
ولد في العام 1933 وترعرع في ولاية تينيسي الأمريكية. كان والده محامياً لامعاً. لكن مكارثي قطع دراسته وتمكن من أن يحصل على تكاليف معيشته كميكانيكي سيارات. ويتحدث آخرون عن حياة قاسية عاشها؛ كان ينام تحت الجسور، وفي غرف السجون، أشبه بالمتشرد، بالضبط كما صور فيما بعد بطل روايته quot; الضائعquot; الذي ترك عائلته البورجوازية لترمي به الأحداث إلى نهر تينيسي وينتهي هناك.
يكتب مكارثي عن أحداث يعيشها ويتفاعل معها. نشر في العام 1965 quot;حارس الحديقةquot;، وبعد ثلاث سنوات كتب quot;خارجاً في الظلامquot;. جرى في تلك المرحلة من شبابه تشبيهه بوليم فوكنر، لكن الرهان على ملكته الأدبية كانت توعد بروائي استثنائي لدى النقاد ولدى العديد من المختصين بالأدب. ترك مكارثي الولايات المتحدة الأمريكية وغادر إلى أوربا. اقترن في بريطانيا بمغنية إنجليزية ثم عاد معها إلى البلاد. وعندما رزقا بطفل كان عليه أن يعمل ليقيم أود الأسرة فقام بكتابة حوار لفيلم وكتب عدداً من كتب الجيب السريعة. أنفصل قي العام 1976 عن زوجته. بعد ذلك بوقت قصير نشر روايته quot;الضائعquot; التي استغرقت كتابتها سنوات طويلة. مع أن المعنيين والعديد من نقاد الأدب والمحبين ثمنوا واحتفلوا بصدور الرواية التي تقدر بـ 600 صفحة وصفوها بالعمل الاستثنائي لما تميزت به من رموز وتأويلات وتفسيرات غفيرة لإرث كبير من الميثولوجيا، إلاّ أن الرواية لم تسجل لدى القراء أعلى المبيعات.
انتقل مكارثي إلى تيكساس. وروايته التالية التي صدرت كانت أحداثها تدور في المنطقة الحدودية بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية. وقد حازت الرواية المسماة quot; الحُصن الجميلةquot; التي صدرت في العام 1992على اهتمام استثنائي واعتبرت أول رواية له تسجل مبيعات عالية، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وحسب إنما في العديد من اللغات التي ترجمت إليها. و حولت هوليود الرواية التي تدور حول راعي بقر ولصوص الخيول إلى فيلم سينمائي درت عليه مبالغ كبيرة.
في هذه الأثناء تزوج مكارثي للمرة الثالثة وعاش في quot; سانتا فيquot; وانكب على الكتابة. يقول بهذا الصدد:quot; من الكتب تُصنَع الكتبquot; فينشغل من خلال روايتهquot; الشارعquot; إلى جانب انشغالات أخرى بتأليف عدد من كتب الخيال العلمي على شكل روايات الجيب.
يصف مكارثي في روايته الجديدة quot; الشارعquot; التي حازت على جائزة quot; بوليتزرquot; أمريكا كما لو أنها تعرضت إلى حرب نووية. كل شيء يغلفه السواد، الموت في كل مكان والحياة دُمّرت..إنها إذا quot; نهاية العالمquot;.
في الرواية أب وابنه الذي يبلغ العاشرة من العمر يهربان في أمريكا المحترقة. الأرض مجرد نتوءات وأخاديد مغضنة دمرت برمتها من جراء كارثة لحقت بها. الرماد يعتم السماء والأرض خربة بينما يمضي العالم حثيثاً إلى البرودة. هكذا يرسم مكارثي في روايته، بتوليفة وإيقاع متداخل، بلون معتم خال من الرجاء، عالماً يتداعى نحو الانتهاء. تصبح المدن والقرى والقصبات خراباً، تتحول إلى أشبه بالصحراء.لا أشجار هناك ولم تعد ثمة حقول أو حيوانات. ما يتحرك في هذا الجو القاتم مجرد شبحان يحثان الخطى،لا يزالان على قيد الحياة، يجرجران جثتيهما عبر الخراب ويبحثان عن ما يقيم أودهما. شخصان: أب وابنه الذي يبلغ العاشرة من العمر، لا اسم لهما. لم تعد الأسماء مهمة في نهاية العالم، هما مجرد رمز يسميهما المتحدث في الرواية بـ quot;الأب و الشابquot;. السماء تمطر رماداً وهي معتمة فيما يجرجر أب وابنه جسميهما وهما على وشك الموت من الجوع والتعب والخوف على أوتوستراد خال من البشر. يهربان دوماً من خوف زمر تلاحقهم. وعلى طريقة الجوالين الذين يعيشون على هامش المجتمع يحملان بعض المتاع داخل عربية للتسوق فيما quot;يتسلحquot; الأب بمسدس محشو باطلاقتين، لا يأمل كثيرا أن يقيه من زمر قطاع الطرق في quot; الشارعquot; الذي يفضي بهما إلى الساحل.
وفي حوار يدور بين الأب وابنه لا يعنيهما العالم الذي يحيط بهما وسوف لا يقدم لهما العالم أية معونة للخلاص، بل عليهما اجتياز المحنة بقدرتهما وإصرارهما.

ـ ما يزال هناك أناس أخيار، أنت قلتَ ذلك.
ـ نعم
ـ أين هم؟
ـ إنهم يخفون أنفسهم
ـ عنْ مَن؟
ـ عن بعضهم البعض
ـ وهل هناك العديد منهم؟
ـ نحن لا نعرف
ـ ولكن هناك البعض منهم على الأقل.

تعتبر رواية مكارثيquot; الشارعquot; من أصعب أعماله، ويحدد النقاد اللغة التي استعملها في الرواية بأنها لغة مختلفة عن لغة رواياته الأخرى. إن لغة وليم فوكنر المحتشدة واللامعة بالحزن تتحول في هذه الرواية الأمريكية عند مقاطعها الأخيرة إلى لغة صلبة كالحجر، وتقترب من لغة صاموئيل بيكت مضفية عليها بعض النعومة. وبهذا
الاقتراب من أعمال الكاتب الايرلندي تنغلق الدائرة التي أرادها مكارثي، ربما في موقع ما من عقله الباطن. ان مكارثي الذي عُمّدَ باسم quot;جارلس مكارثيquot; قام مبكراً بتغيير اسمه الأول إلى quot; كورماك مكارثيquot; تيمناً وتقديراً للملك الأيرلندي، وهو يكن حباً خاصاً لأيرلندة ولبيكيت.
رواية مكارثي ليست بالتأكيد رواية خيال علمي أو رواية مغامرات تتعكزعلى أحداث الكوارث والأقدار كالفيضانات وانهيار عمارات عالية على البشر ومحاولة إنقاذهم ثم تجادل على نحو مجاني في أسبابها وترى نتائجها واضحة، بينما تستكمل عقدتها بالانفراج لتطري البطل، وكذلك ليست هي رواية أخلاقية تتحدث أو تنوه عن تخريب البيئة و المسؤولية التي تقع على البشر جميعاً.
quot;النهايةquot; لأمريكا وللعالم، من ثمّ، كما تقدمها روايةquot; الشارعquot; لم تحض بشروح محددة في أسبابها وفي نتائجها الكارثية. سوف لا يجد القارئ، ولا مرة واحدة، حتى بالتنويه، السبب الذي جعل العالم أن ينتهي على هذا النمط من الهلاك وحدا بالناس أن يبحثوا للوصول إلى الساحل وهم يطوفون بين الجثث والدمار بينما تحف بهم مخاطر الموت المجاني الذي يعني في جو الرواية موتاً مجانياً بالضرورة. هكذا ركز مكارثي على النتائج بالدرجة الأولى.
لا يريد مكارثي في روايته أن يركز سرده،على نمط تقليدي، لإضاءة شخصيات عديدة، ولا أراد أن يضفي فيها على المكان تفصيلات وتداخلات تتفاعل مع شخوصه وتحدد لهم بانوراما المكان والزمان. على العكس ركز مكارثي في روايتهquot; الشارع quot; الذي، ربما، يفضي إلى الساحل، على العالم المحدود في تفاعله مع الأب والابن. سرد ذلك بجمل قصيرة، قليلة قدر الإمكان، وتمكن بذلك أن يجسد صراع الباقين على الحياة من أجل الاستمرار. وهو بذلك يلتقي مع التراث الكلاسيكي العظيم للأدب الأمريكي الذي تميز بتقديم صراع الفرد أمام قدره ومصيره دون أن يمتثل للعجز وينفض عنه الأمل. يصف مكارثي الجوع والخوف والبرد القارس، يصف التعب والهروب من الهلاك. وعندما يحتمي الأب والابن في حفرة يعثران على جثث مشوهة. يريدان إشعال النار لأن البرد القارس الذي يذكر بما بعد التفجير النووي.
الرواية لا تسرد تاريخاً. تبتعد عن المونولوج، كما لو كان كل شيء قد بدأ للتو في المكان ذاته، وجدت شخوص الرواية قدرها في هذا المكان لتصارع في لحظات قاسية، وفي وحشتها، تصارع لأجل أن تبقى على قيد الحياة. يتجسد ذلك في إطلاق النار من قبل الأب على آكل لحم البشر عندما يقترب منه، وهي الطلقة ما قبل الأخيرة في مسدسه. آو عندما يعثران في حفرة يلوذان بها من الخوف والبرد على جثث مرمية يتعثران بها وهي ملقاة هناك.
إن حديث مكارثي في سرد روايته يمتثل ويقترب من ما يسمى في الفن والموسيقى بـ quot; الأدنويةquot; أي أن ما يصفه في جمله القصيرة يمتثل إلى القلة. وجمله التي تمتاز بالابتسار تقترب أحياناً، على نحو ما، من لغة الإنجيل. ويعتقد النقاد أن مكارثي في مواضع معينة يتقصد انتحال بنية مباشرة وخطابية في لغته، سرعان ما يعود دوماً إلى نمط الحوار والسرد لتخييل الواقع والصعود به إلى مصاف الحلم أو الوهم.
كانت في أعماله السابقة أيضاً شخصيات تتمثل بالدناءة وبالصراع المجرد عن الأخلاق. ولكنها على أية حال شخصيات محتشدة بالعواطف، دينامية في صراعها، تعرف ذاتها وتحاول بكل ما لها من مقدرة أن تجتاز العقبات وتعيش. وفي روايته الأخيرةquot; الشارعquot; بلغت تلك الشخصيات مداها الأقصى في الصراع من أجل البقاء، حتى وأن كانت لا تنتظر الرحمة والخلاص بمقتضى تعاليم الدين.
وربما، كما يحلل النقاد، لأنها نزعة أمريكية قديمة، كما تجسدها حقائق الغرب الأمريكي عبر حياة رعاة البقر والمستوطنين الأوائل.استطاع مكارثي تحويل ذلك إلى الكتابة الأدبية، ولكن هذه المرة يتلاعب في جوهر النزعة ويجسد الإنسان دون أفاق، تنغلق أمامه كافة المنافذ للخلاص.
الرواية الجديدة التي حازت على جائزة بوليتزر تجسد في الواقع كابوساً معتماً. ولكن مع انعدام الأمل ينبغي الحفاظ على إنسانيتنا، هكذا ربما أراد مكارثي في روايته، مع أن أحد أبطاله يقول: ليس هناك من مخلص لنا.