quot;حين نشترك في الكتابة نسمي نفسينا quot;هـ . بستوس دوميك.
كان بستوس جداً عظيماً لجدي وquot;دوميكquot; جداً عظيماً لجدهquot;
خورخي لويس بورخس
الشخصية الثالثة هنا، ليست الشخصية الثالثة كعدد، ولكنها تلك الشخصية التي توجد نتيجة اشتراك أكثر من كاتب في كتابة نص واحد، فقد تكون الشخصية الثالثة هي الشخصية العاشرة إذا كان عدد الكتاب المشتركين في كتابة نص ما تسعة كتاب. هكذا يمكنني أن أقول أنها المولود الأثيري المتكون من تلك الأفكار الممزوجة بطريقة غريبة، والصادرة عن عدد من الأشخاص، بحيث أن لا تكون حواراً، وأن يكون النص المنتج هو حالة جمعية، بكل معنى الكلمة.
يقول بورخس في حوار معه quot;حين تنتج كتابتنا، تجيء شيئاً مختلفاً تماماً عن هراء quot;بوي كاساريزquot; وهرائي أنا، حتى المزح مختلف، وبهذا فقد خلقنا ما بيننا شخص ثالث؛ لقد أنجبنا لحد ما شخص ثالث والذي يختلف عنا تماماًquot;. يبدو لي الأمر مثل شخصية على خشبة المسرح يمثلها ممثلان مربوطان بحبل بحيث يلتصق الظهر بالظهر، فبذلك نجد وجهين لعملة واحدة، نجد وجهين لشخصية واحدة، وكذلك ربما يكون الشخص الثالث، مثل مولود جديد، ونتاج لتلاقي كائنين، ولكن لكل إنجاب طريقته، فذلك إنجاب بيولوجي، ونحن الآن بصدد حالة إنجاب نص، وهذا ما يذكره بورخس أعلاه.
وكما أن الجنين ينتج مختلفاً أحياناً عن والديه تماماً، فالمولود\ النص ينتج مختلفاً عن أبويه\الكاتبين. ربما يأتي مشابهاً لجد بعيد، أو مزيج من أفكار، وهراء، يشبه أفكاراً وهراءً كان موجوداً ذات يوم، في أجداد بعيدين. ربما نحتاج لعلم وراثة، يختص بتلاقح الأفكار!
أجد محاولة الدخول إلى هذه المنطقة عسيرة، وتقترب أحياناً من الحلم، فمن المعروف أن أي نظامين في الكون يمتلكان حلقات متصلة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى حد ما مهما كان ذلك الحد بسيطاً، وواهياً. كما أن طرق الاتصال البشري، وأدواته المختلفة من اللغة إلى الجسد والتعبير إلى الحس والصورة والحركة والمزج بينها كلها، وتقديمها بشكل حي أو من خلال وسائل العرض المختلفة، أحياناً لا يكون كافياً بالقدر المطلوب لإيصال رسالة ما، في ظل فهم المتلقي وثقافته، وأيدلوجيته، وأشد التفاصيل في قدرته المعرفية. هذا يحيلنا إلى مدى صعوبة العمل الجماعي، أو الثنائي، والحوار، وهنا أتكلم عن تلك الأعمال التي تظهر فهيا شخصية كل فرد، وأفكاره. أما إذا تحدثت عن فكرة النص المشترك على أساس أنه عملية الحصول على (الشخصية الثالثة) ذلك الكائن الأثيري الذي يعود له حق ملكية النص المشترك وحده، فنصوص بورخس وبوي كاساريز هما ملك لشخصية غير موجودة إلا في النص المشترك والتي حملت اسم ldquo;هـ. بستوس دوميكquot;. جاءَ ذلك الاسم من مزجي اسمي جد بورخس ودوميك، وذلك في إشارة إلى عظمتهما، وكما درج كثيراً في مختلف الثقافات بتسمية الابن باسم جده.
ذلك يقودني إلى أفكار أخرى حول الشخصيات التي تسكن شخصية واحدة. والنصوص التي تسكن نص واحد، ذلك الانقسام المرضي أو غير المرضي في شخصية النص أو شخصية الكاتب بوصفه نص بيلوجي حي. ربما يحليني ذلك أيضاً إلى وحدة النص العضوية والتي نطالب بها الكاتب عندما ينتج نصه، فنقول مثلاً أن النص هو كتلة واحدة، دفقة مكثفة أو حالة لا يمكن تجزئتها وفصلها، ويمكننا أن نجد نص آخر لكاتب يحتوي في داخله عدة نصوص يمكن للقارئ تناولها، حسب ما ينتقي، كأن نكتب مجموعة قصصية يربطها خيط واحد، أو مجموعة شعرية يربطها خيط واحد... إلخ. يمكننا ان نجد بالمقابل قصة متشظية بالمعنى السلبي للكلمة، أو نص شعري كذلك وهذا يبعث فينا النفور غالباً، فالحصول على دفقة واحدة من المتعة خلال القراءة، يمكنه أن يجعلنا على تواصل مع فكرة يمكننا تأملها، مثل أن تيار نهر متدفق لا ينقطع جريانه، ويمتد إلى مالا نهاية في المخيلة، فالأفكار المكثفة في شكلها ومضمونها تمنح القارئ قدرة على استكشاف خبايا النص، وما وراء الكلام. إذا كانت كل هذا الإشكاليات يمكن لها أن تظهر في النص المكتوب من قبل كاتب واحد، وإن كان هذا الكاتب يكتب من موروث ثقافي وإنساني، ولكن بالنهاية فهو الآن عقل واحد، وكل إنساني متكامل. كيف سيبدو الأمر في حال كان للنص أبوين، نطالبهما بكتابة نص يبدو كما لو أنه لكاتب واحد ؟!
وهنا يمكنني العودة إلى بورخس مرة أخرى quot;ولو كتبت القصة، لو سألتنا إن كانت هذه الصفة أو الجملة خصوصاً جاءت من quot;بويquot; أو مني، فلا نستطيع أن نجيبquot;. إن هذا يعني أن أنا كل منهما اختفت في النص، وتكونت أنا جديدة لا ريب!
هنا تظهر العديد من العقبات، في الأنا بالذات. في صميم الأنا البشرية لدى الكاتب، تلكَ الحالة الفكرية، والتي لا نتساهل بصددها أبداً. لا يتساهل الكاتب، ولا يقدم تنازلات عن أفكاره، وشخصيته، واسلوبه، وفكرته، وهدفهِ. لا تنازلات بهذا الشأن لدى أي منا، البوابة الوحيدة للدخول إلى الشخصية، وتغييرها فعلياً بصدد موضوع ما هي خلخلة المفاهيم، وخلق حالة ارتباك فعلية. الكتابة المشتركة، هي نوع من الأمور التي تتطلب فهم عميق يجمع اثنين، من البشر. مساحة من الحياة، ربما تتيح لكليهما أن يجدا موطئ قدمٍ واحدة، تحملهما معاً فوق نقطة واحدة. وأتساءل الآن ما إذا كان التناقض التام يمكنه أن يخلق حالة كتابة مشتركة، بوصفه الوجه الآخر لحالة الفهم العميقة. كأن يجد الكاتب نفسه مختلفاً مع ذاته، وينتجُ نصاً ذا جملاً تحملها نقيضها في داخلها، وتحمل سخطها على نفسها، وتحمل دهشتها من تلك الأشياء التي لا تدهشها عادةً.
كما أن حالة كتابة كهذه تتطلب أمراً عسيراً، وهو إحداث الفن. الفن بكل ما يدور حوله من مفاهيم، وحالات فردية، وقدرة على خلق الدهشة، من مادة الحياة. نريد من النص المشترك تلك الحياة، المنبعثة من الشعر، والنثر الخالد، بمعنى المتجدد، في الزمانِ والمكان، والمتدفق كالنهر.
إن حالة القلق التي تصيب الفنان، عند الكتابة، سوف تكون مضاعفة بعدد الكتاب المشتركين في النص، وسوف تصدر كائناً لغوياً أشد توتراً وقلقاً، ستذوب فيها الأنوات باستمرار، وتتحول. أريد أن أخلص هنا إلى أننا بالتحديد في كتابة النص المشترك التي تذوب فيه الأنا فعلاً، بأخرى، نكون بصدد توحد الأنوات، وهو توحد فكري من الدرجة الأولى، ويقابل التوحد الجسدي بشكل أو بآخر، هو توحد فكري أدواته الحواس، فالحواس هنا هي الاسم المشترك بين الحالتين ndash;التوحد الفكر، الجسدي- وهذا ينتجُ الكائن الأثيري ذو الأنا الخاصة به، ومالك النص المشترك الوحيد، والذي يمكن أن ندعوه باسم خاص به أيضاً.
تلك الحالة هي عكس انفصال أنا عن أنا أخرى، عكس الولادة. بدء حياة جديدة هو بدء توحد، ثم انقسام بصورة أخرى، ولكن الأكثر تعقيداً هنا. هو أن هذا التوحد يتطلب تحرر من الأنا الذاتية، لتستطيع أن تمتزج بحرية مع أنا أخرى. أما المولود فهو يبدأ بتكوين أناه الخاصة من لحظة ولادته، وكذلك النص المشترك عندما، يشرع في كتابته فهو يبدأ بالانفصال الحقيقي بأفكاره وأناه عن أبويه!
بهذا تكون مرحلة التوحد، مشابهة لمرحلة الانفصال في كلا الحالتين نحتاج لشخصيات لها القدرة على جعل الأنا لديها، وبجميع مكوناتها أكثر مرونةً، وبهذا ربما يصبح كاتب النص المشترك أكثر طفولةً. أكثر انتماءً إلى الآخر، والحياة، وربما يكون لتلكَ النصوص أجواء من البهجة، والهراء!
وفي محاولة لتقريب الفكرة، أورد هذا النص من مقال quot;دونالد وينيكوتquot; quot;وجه الأم بصفته مرآةquot; حيث يقول quot;ماذا يرى الرضيع عندما يتجه بنظره صوب وجه أمه؟ إنه يرى نفسه على وجه العمومquot; وهذا ما يحدث للشخصية الثالثة عندما تولد من تكون النص المشترك، فأنا تلك الشخصية تنتج بشكل أو بآخر من خلال أنا النص، الذي لا يمكنه أن يكون إلا بوجود مساحة لشخصيات يمكنها مزج أفكارها، وإذابة الأنا الخاصة بها في مجمل كلي، لتوليد نص مختلف عن النصوص الفردية لكل كاتب، وبالتالي هو نص حرّ بمعنى الكلمة لا سلطة أخلاقية ولا أدبية لأحد عليه، هو ملك عام لكل من وضع حرفاً فيه.
النص المشترك هو الأم، التي منها يمكن للقارئ إيجاد الشخصية الثالثة، وفي حال استطاع القارئ التعرف على أحد الكتاب الذين كتبوا النص، فهنا يكون ثمة لبس ما. ويتحول النص من نص مشترك إلى ما يشبه حوار، بطريقة أو بأخرى، لأننا في ذلك الوقت نحصل على أكثر من أنا واحدة داخل النص، وبهذا نفقد الشخصية الثالثة، وبالتالي نفقد فكرة أن يكون النص أم، ونكشف الزيف والتناقض الذي وقع خلال كتابة النص، بحيث تتجلى لنا أفكار أكثر تفككاً، وتشظياً، وأسلوب غير موحد في أجزاء النص.
التعليقات