الأحد: 16. 10. 2005

... وملامح تغير في الموقف المتشدد نحو دمشق


رسالة واشنطن : خالـد داود:

بقدر ما مثل الإعلان المفاجئ لدمشق عن انتحار وزير الداخلية السوري ورجلها القوي سابقا في لبنان غازي كنعان من تطور درامي مثير للجدل وخاصة قبل تسعة أيام فقط من تقديم المحقق الدولي ديتليف ميليس لتقريره للأمم المتحدة عن الأطراف المسئولة عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري فلقد كان لافتا أيضا رد الفعل الرسمي الأمريكي والذي لم يبادر إلي التشكيك في الرواية السورية بل وتم الاكتفاء بمطالبة دمشق بإعلان المزيد من التفاصيل بعد التحقيق في الحادث‏.‏

وبعد عدة شهور من تصعيد واضح في لهجة الانتقادات الأمريكية لسوريا بلغت مداها في خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش أمام منظمة الوقف القومي للديمقراطية الأسبوع الماضي والتي طالب فيها المجتمع الدولي بمحاسبة سوريا وإيران وعدم السكوت علي ما وصفه بدعمهما للإرهاب وكذلك تسريبات متواصلة للصحف بأن تحقيق ميليس توصل إلي إتهامات مباشرة لمسئولين سوريين كبار بالتورط في اغتيال الحريري فإن مصادر مطلعة علي مجريات المناقشات داخل الإدارة الأمريكية بشأن العلاقة مع الحكومة السورية ألمحت إلي بوادر تغير في موقف الرئيس الأمريكي تجاه دمشق وربما البدء في قبول فتح حوار جديد مقابل تحركات فعلية علي الأرض وليس مجرد تعهدات وتصريحات من الرئيس السوري بشار الأسد بشأن الملفات العالقة الثلاثة‏:‏ العراق ولبنان ومسيرة السلام تحديدا بين الفلسطينيين والإسرائيليين‏.‏ ويبدو وفقا لتلك المصادر أن المناقشات التي جرت داخل الإدارة رجحت كفة عدم تصعيد الضغوط علي سوريا أوالعمل علي التخلص من النظام الحالي بناء علي نصائح التيار المتشدد داخلها والمؤيد لإسرائيل وذلك في ضوء تحذيرات إقليمية من تأثير هذا العمل علي الاستقرار في المنطقة وضرورة تجنب إضافة بؤرة توتر جديدة في الوقت الذي تواجه الإدارة الأمريكية مشاكل عميقة في العراق‏.‏

ولدي سؤال الرئيس بوش عن رد فعله عن إعلان دمشق انتحار كنعان وإذا ما كان له صلة بتحقيق ميليس تجنب الرد مباشرة علي السؤال وشدد علي القول بدلا من ذلك أن بلاده لم تتطلع بعد علي محتوي التقرير المقرر أن يقدمه المحقق الألماني إلي مجلس الأمن نهاية الأسبوع المقبل‏.‏ وبلهجة بدت هادئة وبملامح تختلف عن القسمات الغاضبة التي تكسو وجهه عندما يبدأ في توعد سوريا وإيران واتهامهما بدعم الإرهاب قال بوش أن لواشنطن‏'‏ الكثير من التوقعات من سوريا تتجاوز ما سيحتويه تقرير المحقق ميليس‏.‏ ولكن لنري أولا ما سيقوله تقرير ميليس‏.'‏ وأضاف‏'‏ في نفس الوقت فإننا سنواصل العمل مع أصدقائنا وحلفائنا من أجل توصيل رسالة واضحة لحكومة الأسد مفادها أن هناك توقعات محددة من الدول الراغبة في أن تكون مقبولة في المجتمع الدولي‏.'‏ ولخص بوش هذه التوقعات في مطالبه المكررة من دمشق والتي تتلخص في السيطرة علي حدودها مع العراق ومنع تسلل المقاتلين إليها‏,‏ واحترام سيادة لبنان‏,‏ والتوقف عن التدخل في شئونه‏,‏ وأخيرا عدم استضافة المنظمات الفلسطينية الرافضة لمسيرة السلام مع إسرائيل‏.‏ ووفقا للمصدر الأمريكي المطلع علي المناقشات الدائرة داخل إدارة الرئيس بوش بشأن سوريا فإن تصريح الرئيس الأمريكي به تلميح صريح بأن الباب لم يعد مغلقا تماما أمام دمشق من أجل الحصول علي‏'‏ القبول من المجتمع الدولي‏'‏ ولكن المهم هو تنفيذ ما تتعهد به من التزامات‏.‏

وجاء تصريح بوش بعد يومين فقط من نفي وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس لتقرير نشرته مجلة النيوزويك وقالت فيه إن كبار العاملين في الإدارة عقدوا اجتماعا في مطلع شهر أكتوبر لمناقشة احتمالات توجيه ضربات عسكرية داخل سوريا وذلك ردا علي الاتهامات بدعم المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي‏.‏ وأشار التقرير إلي أن رايس هي التي رفضت ذلك الاقتراح وتمسكت بأن الضغط الدبلوماسي الذي تمارسه واشنطن منذ شهور علي سوريا بمساعدة حلفاء أوربيين ودول عربية والتصعيد العلني للانتقادات الموجهة لها والتهديد بعزلها وفرض العقوبات الدولية قد بدأ يؤتي ثماره‏.‏ وطالبت رايس الصحفيين‏'‏ بعدم تصديق كل ما يقرأونه‏'‏ في إشارة إلي تقرير النيوزويك وقالت إنها لن تقوم بالتعليق علي مزاعم‏'‏ أصدرها أشخاص كانوا خارج الاجتماع ومنحوا أنفسهم الحق في نفس الوقت بأن يدلوا بتصريحات عن ما جري داخله‏.'‏ وأضافت‏'‏ لقد كنا واضحين للغاية بشأن سوريا‏'‏ وكررت نفس المطالب التي أشار لها بوش بشأن العراق ولبنان والملف الفلسطيني‏.‏

وفي تعبير واضح عن الاحباط الأمريكي من ما يبدو من أنه نمط متكرر في سلوك سوريا لدي التعامل مع مطالب إدارة بوش أشارت رايس إلي عدم قدرتها علي فهم مبرر قيام الرئيس السوري علي استضافة أحد كبار قيادات حركة حماس مؤخرا في دمشق والسماح له بعقد مؤتمر صحفي في نفس الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة السورية رغبتها في التعاون مع المطالب الأمريكية وتنفي دعم المنظمات الفلسطينية المسلحة وتحديدا حماس والجهاد‏.‏ ويشكو المسئولون الأمريكيون باستمرار من ذلك النمط المتناقض في السلوك السوري بين الأقوال والأفعال والتباطؤ في تنفيذ تحركات فعلية في انتظار تغير الظروف في المنطقة وربما تصاعد المشاكل الأمريكية في العراق أو في مناطق أخري تلهيها عن الاهتمام بالملف السوري‏.‏

ووسط كل الظروف الغامضة والمريبة التي أحاطت بحادثة الإعلان المفاجئ عن انتحار كنعان الذي وصفه السياسيون اللبنانيون بأنه الحاكم الفعلي لبيروت في الفترة ما بين‏1982‏ وحتي ترقيته لتولي منصب رئاسة المخابرات عام‏2002‏ ولاحقا وزارة الداخلية في العام‏2004‏ جاء تزامن ذلك الإعلان مع المقابلة المطولة التي أجراها الرئيس السوري بشار الأسد مع شبكة تليفزيون سي‏.‏إن‏.‏إن ليضفي مزيدا من الغموض واللبس عن ما يجري في الغرف المغلقة بشأن مستقبل العلاقات السورية‏-‏الأمريكية‏.‏ وكان لافتا في تلك المقابلة ثقة الرئيس الأسد في عدم وجود أي أدلة تثبت تورط سوريا في حادثة اغتيال الحريري وتعهده في نفس الوقت بمعاقبة أي مسئول سوري قد يشير تقرير ميليس إلي احتمال تورطه في العملية سواء داخل سوريا أو خارجها علي اعتبار أن ذلك العمل يمثل‏'‏ خيانة‏'‏ لسوريا‏.‏ كما كشف بشار الأسد كذلك للمرة الأولي عن أن دمشق عرضت علي الولايات المتحدة استئناف التعاون الأمني بين البلدين ولكن من خلال طرف ثالث غالبا لنفي الاتهامات الأمريكية المتكررة بأن سوريا لا تقوم بما يكفي وكذلك لتأكيد أن واشنطن هي الطرف الذي يتراجع عن تقديم المعلومات الكافية بشأن ما هو مطلوب تحديدا من دمشق‏.‏

ولكن هذه التعهدات التي أطلقها الرئيس السوري ورد الفعل الأمريكي الرسمي الهادئ علي إعلان انتحار كنعان لم توقف بالطبع الجدل الدائر هنا كما في كل الدول المعنية بالملف السوري حول حقيقة ما جري لرجل الأمن السوري القوي المنتمي لجيل الحرس القديم الذي صاحب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لسنوات طويلة‏.‏ وحتي داخل الإدارة الأمريكية فلقد نقلت الصحف الأمريكية تصريحات متناقضة لمن قالت إنهم مسئولون كبار بشأن إذا كان ما جري في دمشق هو‏'‏ انتحار‏'‏ بالفعل أو محاولة للتخلص من أحد أهم المصادر المطلعة علي ملف العلاقات مع لبنان و قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري‏.‏

وقال مسئول أمريكي للنيويورك تايمز أنه‏'‏ غير مندهش أن أمرا مثل هذا قد حدث‏.‏ ولكن ما أصابنا بالدهشة شخصية من أقدم علي الانتحار وفي نفس التقرير نقلت الصحيفة عن مسئول آخر قوله‏'‏ ما رأيناه حتي الآن لا ينفي أن ما حدث كان انتحارا‏.‏ ولكن هذا النوع من الوفاة قد يذهب سره معه أيضا إلي السماء‏.'‏ أما دينيس روس مبعوث السلام الأمريكي السابق إلي منطقة الشرق الأوسط فلقد تبني موقف من سارعوا بتوجيه أصابع الاتهام إلي الحكومة السورية والتشكيك في رواية انتحار كنعان خاصة في أعقاب تلك المكالمة التي أجراها قبل ساعات من إعلان انتحاره مع محطة إذاعة صوت لبنان والتي نفي فيها تورطه في اغتيال الحريري وأعلن في نفس الوقت أن هذا سوف يكون‏'‏ تصريحه الأخير في هذا الشأن‏.'‏ وقال روس‏'‏ لا أعتقد أنه انتحار‏.‏ فتزامن الإعلان عن ذلك مع اقتراب اعلان تقرير ميليس مصادفة غير عادية‏.'‏ وأضاف روس أنه إذا ثبت أي تورط سوري في اغتيال الحريري فإن أصابع الاتهام كانت ستتجه غالبا نحو كنعان الذي سبق للولايات المتحدة الإعلان قبل شهور عن تجميد أرصدته المالية بتهمة دعم المنظمات الإرهابية إبان سنوات عمله الطويلة في لبنان‏.‏ ومن المؤكد في جميع الأحوال أنه لم يكن
من المتوقع أن تذرف واشنطن الدموع علي كنعان أو تطالب بتحقيق مستقل أو دولي في حقيقة ما حدث‏.‏ وفي الوقت الذي ركز فيه المشككون في رواية الحكومة السورية حول انتحار كنعان علي الجملة الأخيرة من محادثته الإذاعية مع صوت لبنان حول‏'‏ التصريح الأخير‏'‏ فإن مراقبين آخرين ممن استمعوا لنفس الحوار أشاروا إلي أنه لا يمكن اعتبار محتواها بمثابة وصية أخيرة من وزير الداخلية بل مجرد تأكيد أنه لن يعود إلي الحديث عن الاتهامات الموجهة له في هذا الشأن مرة أخري‏.‏

وفي جميع الأحوال فإن كافة الأطراف تنتظر وبشغف الآن ما سيحتويه تقرير ميليس وإذا ما كان سيستجيب لمطالب أطراف في الحكومة اللبنانية الحالية تدعوه لإعلان تأجيل التقرير النهائي حتي نهاية العام الحالي وليس يوم الجمعة المقبل كما هو مقرر‏.‏ ومن المؤكد أن أي تأخير في إصدار التقرير لن يخدم مصلحة دمشق التي تؤكد ثقتها في براءتها‏.‏ كما يبدو من التصريحات الأمريكية الأخيرة أن إدارة بوش قد تكون راغبة في منح النظام السوري فرصة أخري وأخيرة بكل تأكيد وأن أحد المحفزات المهمة لدمشق في هذا الشأن ستكون تجاوز تقرير ميليس كما قال الرئيس بوش والبدء في التعامل مع الملفات الأخري شديدة الأهمية المتعلقة بالعراق ولبنان ومسيرة السلام‏.‏ وفي هذا الشأن صرح مصدر أمريكي مطلع بأن‏'‏ المطلوب من دمشق القيام به الآن من أجل النظر في تخفيف العزلة الدولية المفروضة عليها أكثر بكثير مما قامت به ليبيا قبل عامين‏'‏ وذلك في إشارة إلي ملف الخلاف الأمريكي الليبي حول قضية تفجير طائرة بان آم والذي انتهي بتسليم اثنين من العاملين في المخابرات الليبية للمحاكمة خارج ليبيا مقابل عدم اتهام توجيه رسمي للنظام‏.‏ ولاحقا قامت ليبيا بإعلان التخلي الكامل عن كافة برامجها ل
إنتاج أسلحة دمار شامل مقابل تطبيع علاقاتها مع واشنطن وهو ما أعتبره الرئيس بوش نجاحا لسياسته في الضغط بالوسائل الدبلوماسية والتهديد بعزل الدول التي يصفها بالمارقة‏.‏