الإثنين: 17. 10. 2005

ليس سهلاً على أي لبناني أن يضع عواطفه جانباً وأن يتحدث عن غازي كنعان بحد أدنى من الموضوعية. فقد لعب الرجل طوال عشرين عاما دور المفوض السامي الآمر والناهي في شان كل ما له علاقة بلبنان، الى حد انه يمكن القول أن وزير الداخلية السوري الذي أذيع رسميا أنه "أنتحر" ربما ذهب ضحية الفشل الذي لحق بمشروعه اللبناني. انه فشل جعله يصل الى ما يمكن أعتباره طريقا مسدوداً في كل الأتجاهات لم يترك أمامه سوى خيار الأنتحار... او الدخول في مواجهة مع خصومه من داخل النظام تقود بطريقة أو بأخرى الى الأنتحار. في النهاية تعددت الأسباب والنتيجة واحدة.أنها تتمثل في غياب اللواء غازي كنعان عن مسرح الأجداث اللبنانية والسورية قبل أيام قليلة من صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس. وهذا يعني في طبيعة الحال وبغض النظر عما يروّج له أهل النظام في سورية وأبواقهم وأدواتهم اللبنانية، ان ل"أنتحار" غازي كنعان علاقة ما بأغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

يمثل ما حلّ بوزير الداخلية السوري الذي كان بين العامين 1982 و2002 صاحب الكلمة الفصل في لبنان، ذروة الفشل السوري في البلد الجار الذي سعت دمشق الى تحويله الى مجرد "ساحة" لها ليس مسموحا للآخرين، بما في ذلك الأخوة العرب، الدخول اليها من دون أذن دمشق. ويكمن النجاح الكبير لغازي كنعان في أنه تمكن من تدجين لبنان واللبنانيين، أو لنقل معظم اللبنانيين وذلك بعدما أمّن للجيش السوري العودة الى بيروت في العام 1986 عن طريق صدامات مفتعلة بين الميليشيات اللبنانية التي كانت تسيطر على بيروت الغربية وتنشر فيها الفوضى. من يريد أن يتذكّر أن أول ما فعله غازي كنعان وقتذاك كان الأصطدام ب"حزب الله"كي يؤكد له أن هناك مرجعية واحدة في البلد أسمها سورية. وكانت المجزرة التي ارتكبتها القوات السورية في ثكنة فتح الله الواقعة في البسطة والتي ذهبت ضحيتها عناصر من" حزب الله"، ذبحت ذبحاً، أوضح دليل على المدى الذي يمكن أن يذهب اليه غازي كنعان لتأكيد أنه ليس مستعدّا لتقاسم السلطة مع أحد.

أستفاد غازي كنعان من عوامل كثيرة ليبسط سلطته المطلقة على لبنان. وكان مستعدا للحوار، على طريقته طبعاً، مثل أستعداده للقتل من أجل تنفيذ مآربه. كان باختصار عقلاً جهنمياً أستفاد من التناقضات الداخلية اللبنانية الى أقصى حدود ووظّف هذه التناقضات وأستخدمها، بما في ذلك سذاجة شحص مثل العماد ميشال عون الذي أنتقل الى قصر بعبدا في العام 1988 ليقسّم المسيحيين ويفتتهم تمهيدا لدخول القوّات السورية الى قصر الرئاسة ومقر وزارة الدفاع وكانا آخر معقلين لا يخضعان للنفوذ السوري المباشر في لبنان.

شاهد غازي كنعان مشروعه ينهار في لبنان. صار في حاجة الى أذن للذهاب الى لبنان. وفي الوقت ذاته، شاهد نظاما ً سورياً مصرّاً على الأنتحار بدءا بأتخاذ قرار بالتمديد للرئيس أميل لحود. وربما أدرك باكرا معنى ارتكاب أو تغطية جريمة في حجم أغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاها وسبقها من جرائم في حق اللبنانيين الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم سعوا الى أصلاح العلاقات بين بيروت ودمشق وبين هؤلاء الشهيد والحبيب سمير قصير. لم يعد غازي كنعان، صاحب الطموحات السياسية الكبيرة، بل الكبيرة جدّا، يجد في وجهه سوى الأبواب المسدودة ، ففضل الرحيل أو وُجد من يفضّل له الرحيل عل رؤية المشهد الأخير في انهيار مشروعه ان في لبنان أو في سورية. لقد ادرك غازي كنعان أن التحقيق في أغتيال رفيق الحريري سيقود الى فتح ملفات كثيرة ، بينها ملف الأموال التي أستطاع ان يجمعها في لبنان والتي هي نتائج صفقات أقل ما يمكن أن توصف به أنها مشبوهة...كذلك ادرك أن التحقيق سيقود في النهاية الى فتح ملفات جرائم أخرى في لبنان بدءا بأغتيال كمال جنبلاط .

غادر غازي كنعان السفينة الغارقة باكراً. والأكيد أن "أنتحاره" لن يكون الأول ولا الأخير في مرحلة يعاد فيها رسم خريطة الشرق الأوسط مع أعادة نظر بالأحجام والأدوار. ربما شاء غازي كنعان الأعتذار على طريقته، وهي الطريقة التي ربما لا يعرف غيرها، عما أرتكبه في حق عدد لا بأس به من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين الأوادم الذين ظلمهم ...

هل هذا بحث عن أسباب تخفيفية لرجل عاش فترة طويلة في ظل نظام يُعاقِب ولا يُعاقَب الى أن وجد نفسه في ظلّ نظام ليس أمامه سوى أنتظار العقاب، نظام ستفتح كل ملفاته عاجلا أم آجلا. نظام لم يعد فيه مكان لأشخاص قادرين حتى على حمايته من تصرفات أهل النظام؟